للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وَأَمَّا مَا وَصَفَهُمْ وَعَرَّفَهُمْ بِهِ فَقَوْلُهُ: (الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ) فَهَذَا اسْتِئْنَافٌ لِبَيَانِ حَالِ هَؤُلَاءِ الْأَوْلِيَاءِ النَّفْسِيَّةِ الْعِلْمِيَّةِ وَالْعَمَلِيَّةِ. أَيْ هُمُ الَّذِينَ جَمَعُوا بَيْنَ الْإِيمَانِ الصَّحِيحِ بِاللهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَمَلَكَةِ التَّقْوَى لَهُ عَزَّ

وَجَلَّ، وَمَا تَقْتَضِيهِ مِنْ عَمَلٍ. وَعَبَّرَ عَنْ إِيمَانِهِمْ بِالْفِعْلِ الْمَاضِي لِبَيَانِ أَنَّهُ كَانَ كَامِلًا بِالْيَقِينِ، لَمْ يُزَلْزِلْهُ شَكٌّ وَلَمْ يَحْصُلْ بِالتَّدْرِيجِ، وَعَنْ تَقْوَاهُمْ بِالْفِعْلِ الَّذِي يَدُلُّ عَلَى الْحَالِ وَالِاسْتِقْبَالِ لِأَنَّ التَّقْوَى تَتَجَدَّدُ دَائِمًا بِحَسَبِ مُتَعَلَّقَاتِهَا: مِنْ كَسْبٍ وَحَرْبٍ، وَشَهْوَةٍ وَغَضَبٍ، وَالْمَعْنَى الْجَامِعُ فِيهَا أَنَّهَا اتِّقَاءُ كُلِّ مَا لَا يُرْضِي اللهَ تَعَالَى مِنْ تَرْكِ وَاجِبٍ وَمَنْدُوبٍ، وَفِعْلِ مُحَرَّمٍ وَمَكْرُوهٍ، وَاتِّقَاءِ مُخَالَفَةِ سُنَنِ اللهِ تَعَالَى فِي خَلْقِهِ مِنْ أَسْبَابِ الصِّحَّةِ وَالْقُوَّةِ وَالنَّصْرِ وَالْعِزَّةِ وَسِيَادَةِ الْأُمَّةِ. وَقَدْ فَصَّلْنَا هَذَا فِي مَوَاضِعَ مِنْ أَهَمِّهَا تَفْسِيرُ قَوْلِهِ تَعَالَى: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) (٨: ٢٩) .

وَأَمَّا الْبُشْرَى الَّتِي زَفَّهَا إِلَيْهِمْ فَهِيَ قَوْلُهُ: (لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ) الْبُشْرَى: الْخَبَرُ السَّارُّ الَّذِي تَنْبَسِطُ بِهِ بَشَرَةُ الْوَجْهِ فَيَتَهَلَّلُ وَتَبْرُقُ أَسَارِيرُهُ. وَهَذِهِ الْبُشْرَى مُبَيَّنَةٌ فِي مَوَاضِعَ مِنْ كِتَابِ اللهِ تَعَالَى، وَقَدْ يُرَادُ بِهَا مُتَعَلِّقُهَا الَّذِي يُبَشَّرُونَ بِهِ، وَلَمْ يُذْكَرْ هُنَا لِيَشْمَلَ كُلَّ مَا بُشِّرُوا بِهِ فِي كِتَابِ اللهِ تَعَالَى وَعَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَأَمَّا الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَأَهُمُّهَا الْبِشَارَةُ بِالنَّصْرِ، وَبِحُسْنِ الْعَاقِبَةِ فِي كُلِّ أَمْرٍ، وَبِاسْتِخْلَافِهِمْ فِي الْأَرْضِ مَا أَقَامُوا شَرْعَ اللهِ وَسُنَنَهُ، وَنَصَرُوا دِينَهُ وَأَعْلَوْا كَلِمَتَهُ، وَأَمَّا فِي الْآخِرَةِ فَمِنْ أَكْمَلِهَا وَأَجْمَعِهَا لِمَعَانِي الْآيَةِ لِأَكْمَلِهِمْ قَوْلُهُ: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ) (٤١: ٣٠ - ٣٢) الْمَشْهُورُ فِي تَنَزُّلِ الْمَلَائِكَةِ عَلَيْهِمْ أَنَّهُ يَكُونُ عِنْدَ الْبَعْثِ، وَكَذَا عِنْدَ الْمَوْتِ، وَلَا مَانِعَ مِنْ شُمُولِهِ لِمَا فِي الْمَلَائِكَةِ الَّذِينَ أَمَدَّ بِهِمْ أَصْحَابَ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي غَزْوَةِ بَدْرٍ: (وَمَا جَعَلَهُ اللهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ (٨: ١٠) الْآيَةَ. ثُمَّ قَالَ: (إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا) (٨: ١٢) وَقَدْ يَكُونُ مِنْهُ إِلْهَامُ الْحَقِّ وَالْخَيْرِ كَمَا وَرَدَ فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ مَرْفُوعًا عِنْدَ

التِّرْمِذِيَّ وَالنَّسَائِيِّ ((إِنْ لِلشَّيْطَانِ لَمَّةً بِابْنِ آدَمَ وَلِلْمَلِكِ لَمَّةً، فَأَمَّا لَمَّةُ الشَّيْطَانِ فَإِيعَادٌ بِالشَّرِّ وَتَكْذِيبٌ بِالْحَقِّ، وَأَمَّا لَمَّةُ الْمَلِكِ فَإِيعَادٌ بِالْخَيْرِ وَتَصْدِيقٌ بِالْحَقِّ، فَمَنْ وَجَدَ ذَلِكَ فَلْيَعْلَمْ أَنَّهُ مِنَ اللهِ فَلْيَحْمَدِ اللهَ، وَمَنْ وَجَدَ الْأُخْرَى فَيَتَعَوَّذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ)) .

(لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللهِ) أَيْ لَا تَغْيِيرَ وَلَا خُلْفَ فِي مَوَاعِيدِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَمِنْهَا هَذِهِ الْبِشَارَاتُ وَمَا فِي مَعْنَاهَا مِنَ الْآيَاتِ (ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) أَيْ ذَلِكَ الَّذِي ذُكِرَ مِنَ الْبُشْرَى بِسَعَادَةِ الدَّارَيْنِ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ الَّذِي لَا يَعْلُوهُ فَوْزٌ وَإِنَّمَا هُوَ ثَمَرَةُ الْإِيمَانِ الْحَقِّ، وَالتَّقْوَى الْعَامَّةُ فِي حُقُوقِ اللهِ وَحُقُوقِ الْخَلْقِ.

<<  <  ج: ص:  >  >>