(وَالطَّرِيقُ الْأُخْرَى) خَبَرُ الصَّادِقِ الْمَعْصُومِ بَعْدَ أَنْ قَامَتِ الدَّلَائِلُ عَلَى صِدْقِهِ وَعِصْمَتِهِ عِنْدَكَ، وَلَا يَكُونُ الْخَبَرُ طَرِيقًا لِلْيَقِينِ حَتَّى تَكُونَ سَمِعْتَ الْخَبَرَ مِنْ نَفْسِ الْمَعْصُومِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أَوْ جَاءَكَ عَنْهُ مِنْ طَرِيقٍ لَا تَحْتَمِلُ الرِّيَبَ، وَهِيَ طَرِيقُ التَّوَاتُرِ دُونَ سِوَاهَا، فَلَا يَنْبُوعَ لِلْيَقِينِ بَعْدَ طُولِ الزَّمَنِ بَيْنَنَا وَبَيْنَ النُّبُوَّةِ إِلَّا سَبِيلُ الْمُتَوَاتِرَاتِ الَّتِي لَمْ يَخْتَلِفْ أَحَدٌ فِي وُقُوعِهَا، فَالْإِيقَانُ بِالْمُغَيَّبَاتِ كَالْآخِرَةِ وَأَحْوَالِهَا وَالْمَلَأِ الْأَعْلَى وَأَوْصَافِهِ، وَصِفَاتِ اللهِ الَّتِي لَا يَهْتَدِي إِلَيْهَا النَّظَرُ لَا يُمْكِنُ تَحْصِيلُهُ إِلَّا مِنَ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ، وَهُوَ الْحَقُّ الَّذِي جَاءَنَا مِنَ اللهِ لَا رَيْبَ فِيهِ، فَعَلَيْنَا أَنْ نَقِفَ عِنْدَمَا أَنْبَأَ بِهِ مِنْ غَيْرِ خَلْطٍ وَلَا زِيَادَةٍ وَلَا قِيَاسٍ.
وَأَكَّدَ الْإِيقَانَ بِالْآخِرَةِ بِقَوْلِهِ: (هُمْ) اهْتِمَامًا بِشَأْنِهِ وَلِيُبَيِّنَ أَنَّ الْإِيقَانَ بِالْآخِرَةِ خَاصَّةٌ مِنْ خَوَاصِّ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقُرْآنِ وَبِمَا أُنْزِلَ قَبْلَهُ مِنَ الْكُتُبِ لَا يُشْرِكُهُمْ فِيهِ سِوَاهُمْ، وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْمُوقِنُ بِهِ مِنْ أَحْوَالِ الْآخِرَةِ قَطْعِيًّا، فَهَذِهِ الْإِضَافَاتُ الَّتِي أَضَافُوهَا عَلَى أَخْبَارِ الْغَيْبِ وَخَلَقُوا لَهَا الْأَحَادِيثَ، بَلْ أَضَافُوا إِلَيْهَا أَيْضًا أَقْوَالَ أَهْلِ الْكِتَابِ وَأَشْيَاءَ أُخْرَى نَسَبُوهَا إِلَى السَّلَفِ، وَبَعْضَ
غَرَائِبَ جَاءَتْ عَلَى لِسَانِ الْمُنْتَسِبِينَ لِلتَّصَوُّفِ لَا تَدْخُلُ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْيَقِينُ، بَلِ الْجَهْلُ بِالْكَثِيرِ مِنْهَا خَيْرٌ مِنَ الْعِلْمِ بِهِ، فَإِنَّمَا الْوَصْفُ الَّذِي يَمْتَازُ بِهِ أَهْلُ الْقُرْآنِ هُوَ الْيَقِينُ، وَلَا يَكُونُ الْيَقِينُ إِلَّا حَيْثُ يَكُونُ الْقَطْعُ، وَأَمَّا الظَّنُّ: فَهُوَ وَصْفُ مَنْ عَابَهُمُ الْقُرْآنُ وَأَزْرَى بِهِمْ، فَلَا عَلَاقَةَ لَهُ بِأَحْوَالِهِمْ.
(أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)
هَاهُنَا إِشَارَتَانِ، وَالْمُشَارُ إِلَيْهِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ وَاحِدٌ، وَهُوَ مَا فِي الْآيَتَيْنِ السَّابِقَتَيْنِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُؤْمِنِينَ مِنْهُمْ، وَكَرَّرَ الْإِشَارَةَ لِلْإِعْلَامِ بِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ تَحَقُّقِ الْوَصْفَيْنِ لِتَحَقُّقِ الْحُكْمِ بِأَنَّهُمْ عَلَى هُدًى وَأَنَّهُمْ هُمُ الْمُفْلِحُونَ، كَذَا قَالَ بَعْضُهُمْ وَهُوَ تَكَلُّفٌ ظَاهِرٌ، وَكَذَا قَوْلُهُمْ: إِنَّ تَنْكِيرَ (هُدًى) هُنَا لِلتَّعْظِيمِ. وَشَيْخُنَا قَدْ جَعَلَ الْإِشَارَتَيْنِ لِنَوْعَيِ الْمُؤْمِنِينَ الْمَذْكُورِينَ فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ بِأُسْلُوبِ اللَّفِّ وَالنَّشْرِ الْمُرَتَّبِ.
قَالَ: إِنَّ الْإِشَارَةَ الْأُولَى:
قَالَ: (أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ) فِي هَذِهِ الْآيَةِ لِلْفِرْقَةِ الْأُولَى: وَهُمُ الَّذِينَ يَنْتَظِرُونَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute