للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

الْأَوَّلِينَ، وَالِاتِّعَاظِ بِجَهْلِ الْمُعَاصِرِينَ، فَهَلْ يَلِيقُ بِمَنْ هَذَا كِتَابُهُمْ، أَنْ يَكُونَ مَنْ يَسِمُونَهُ بِسِمَةِ الْعَدَاوَةِ لَهُ أَقْرَبَ إِلَى هِدَايَتِهِ هَذِهِ مِنْهُمْ؟

كَلَّا إِنَّ الْمُؤْمِنَ بِهَذَا الْكِتَابِ هُوَ مَنْ يَهْتَدِي بِهِ وَيَتَّعِظُ بِمَوَاعِظِهِ وَلِذَلِكَ جَعَلَ الْهِدَايَةَ وَالْمَوْعِظَةَ مِنْ شُئُونِ الْمُتَّقِينَ الثَّابِتَةِ لَهُمْ، وَالْمُتَّقُونَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ الْقَائِمُونَ بِحُقُوقِ الْإِيمَانِ، كَمَا قَالَ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ: ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ إِلَخْ. وَقَدْ مَرَّ وَصْفُ الْمُتَّقِينَ وَذِكْرُ جَزَائِهِمْ فِي الْآيَاتِ الَّتِي قَبْلَ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ، وَهَذَا التَّعْبِيرُ أَبْلَغُ مِنَ الْأَمْرِ بِالْهُدَى وَالْمَوْعِظَةِ وَهُوَ يَتَضَمَّنُ الْأَمْرَ بِالثَّبَاتِ فِيهِ وَالْحَثِّ عَلَى الْمُحَافَظَةِ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ قِوَامُ التَّقْوَى الَّتِي هِيَ قِوَامُ الْإِيمَانِ ; وَلِذَلِكَ قَالَ بَعْدَهُ:

وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ الْوَهَنُ: الضَّعْفُ فِي الْعَمَلِ وَفِي الْأَمْرِ، وَكَذَا فِي الرَّأْيِ، وَالْحُزْنُ: أَلَمٌ يَعْرِضُ لِلنَّفْسِ إِذَا فَقَدَتْ مَا تُحِبُّ، أَيْ تَضْعُفُوا عَنِ الْقِتَالِ وَمَا يَلْزَمُهُ مِنَ التَّدْبِيرِ بِمَا أَصَابَكُمْ مِنَ الْجُرْحِ وَالْفَشَلِ فِي أُحُدٍ وَلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَنْ قُتِلَ مِنْكُمْ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ، وَيَصِحُّ أَنْ يَكُونَ هَذَا النَّهْيُ إِنْشَاءً بِمَعْنَى الْخَبَرِ، أَيْ إِنَّ مَا أَصَابَكُمْ مِنَ الْقَرْحِ فِي أُحُدٍ لَيْسَ مِمَّا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مُوهِنًا لِأَمْرِكُمْ وَمُضْعِفًا لَكُمْ فِي عَمَلِكُمْ وَلَا مُوجِبًا لِحُزْنِكُمْ وَانْكِسَارِ قُلُوبِكُمْ ; فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ نَصْرًا تَامًّا لِلْمُشْرِكِينَ عَلَيْكُمْ، وَإِنَّمَا هُوَ تَرْبِيَةٌ لَكُمْ عَلَى مَا وَقَعَ مِنْكُمْ مِنْ مُخَالَفَةِ قَائِدِكُمْ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي تَدْبِيرِهِ الْحَرْبِيِّ الْمُحْكَمِ، وَفَشَلِكُمْ وَتَنَازُعِكُمْ فِي الْأَمْرِ، وَذَلِكَ خُرُوجٌ عَنْ سُنَّةِ اللهِ فِي أَسْبَابِ الظَّفَرِ، وَبِهَذِهِ التَّرْبِيَةِ تَكُونُونَ أَحِقَّاءَ بِأَلَّا تَعُودُوا إِلَى مِثْلِ

تِلْكَ الذُّنُوبِ، فَتَكُونُ التَّرْبِيَةُ خَيْرًا لَكُمْ مِنْ عَدَمِهَا بَلْ يَجِبُ أَنْ تَزِيدَكُمُ الْمَصَائِبُ قُوَّةً وَثَبَاتًا بِمَا تُرَبِّيكُمْ عَلَى اتِّبَاعِ سُنَنِ اللهِ فِي الْحَزْمِ وَالْبَصِيرَةِ وَإِحْكَامِ الْعَزِيمَةِ وَاسْتِيفَاءِ الْأَسْبَابِ فِي الْقِتَالِ وَغَيْرِهِ، وَأَنْ تَعْلَمُوا أَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا مِنْكُمْ شُهَدَاءُ وَذَلِكَ مَا كُنْتُمْ تَتَمَنَّوْنَهُ كَمَا سَيَأْتِي، فَتُذَكِّرُهُ مِمَّا يَذْهَبُ بِالْحُزْنِ مِنْ نَفْسِ الْمُؤْمِنِ (وَهَاتَانِ الْعِلَّتَانِ قَدْ ذُكِرَتَا فِي الْآيَةِ الَّتِي بَعْدَ هَذِهِ) وَكَيْفَ تَهِنُونَ وَتَحْزَنُونَ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ بِمُقْتَضَى سُنَنِ اللهِ - تَعَالَى - فِي جَعْلِ الْعَاقِبَةِ لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يَتَّقُونَ الْحَيَدَانَ عَنْ سُنَنِهِ، وَفِي نَصْرِ مَنْ يَنْصُرُهُ وَيَتَّبِعُ سُنَنَهُ بِإِحْقَاقِ الْحَقِّ وَإِقَامَةِ الْعَدْلِ، وَالْمُؤْمِنُونَ أَجْدَرُ بِذَلِكَ مِنَ الْكَافِرِينَ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ لِمَحْضِ الْبَغْيِ وَالِانْتِقَامِ، أَوِ الطَّمَعِ فِيمَا فِي أَيْدِي النَّاسِ، فَهِمَّةُ الْكَافِرِينَ تَكُونُ عَلَى قَدْرِ مَا يَرْمُونَ إِلَيْهِ مِنَ الْغَرَضِ الْخَسِيسِ، وَمَا يَطْلُبُونَهُ مِنَ الْغَرَضِ الْقَرِيبِ، فَهِيَ لَا تَكُونُ كَهِمَّةِ الْمُؤْمِنِ الَّذِي غَرَضُهُ إِقَامَةُ الْحَقِّ وَالْعَدْلِ فِي الدُّنْيَا، وَالسَّعَادَةِ الْبَاقِيَةِ فِي الْآخِرَةِ، أَيْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ بِصِدْقِ وَعْدِ اللهِ بِنَصْرِ مَنْ يَنْصُرُهُ، وَجَعْلِ الْعَاقِبَةِ لِلْمُتَّقِينَ الْمُتَّبِعِينَ لِسُنَنِهِ فِي نِظَامِ الِاجْتِمَاعِ بِحَيْثُ صَارَ هَذَا الْإِيمَانُ وَصْفًا ثَابِتًا لَكُمْ حَاكِمًا فِي ضَمَائِرِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ فَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَإِنْ أَصَابَكُمْ مَا أَصَابَكُمْ. وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا فَإِنَّ مَا أَصَابَكُمْ يُعِدُّكُمْ لِلتَّقْوَى، فَتَسْتَحِقُّونَ تِلْكَ الْعَاقِبَةَ وَهِيَ عُلُوُّ

<<  <  ج: ص:  >  >>