مِنْ حَيْثُ هُمْ مُتَمَتِّعُونَ فِيهَا، إِمَّا مِنْ حَيْثُ أَنَّ لَذَّتَهُمْ فِيمَا هُمْ فِيهِ قَهْرِيَّةٌ، وَإِمَّا عَلَى مَعْنَى أَنَّهَا لَا بَقَاءَ لَهَا، أَوْ يُقَالُ: إِنَّ مَا كَانَ
مِنْ عَمَلِ الْخَيْرِ وَالطَّاعَةِ لَيْسَ مِنْ مَتَاعِ الدُّنْيَا، وَالْحَصْرُ بِحَسَبِ مَا عَلَيْهِ الْغَالِبُ.
وَأَقُولُ: حَاصِلُ مَعْنَى الْجُمْلَةِ أَنَّ الدُّنْيَا لَيْسَتْ إِلَّا مَتَاعًا مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَغُرَّ الْإِنْسَانَ وَيَشْغَلَهُ عَنْ تَكْمِيلِ نَفْسِهِ بِالْمَعَارِفِ الْحَقِيقِيَّةِ، وَالْأَخْلَاقِ الْمَرْضِيَّةِ الَّتِي تَرْقَى بِرُوحِهِ فَتَعُدُّهَا لِسَعَادَةِ الْآخِرَةِ، فَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَحْذَرَ مِنَ الْإِسْرَافِ فِي الِاشْتِغَالِ بِمَتَاعِهَا عَنْ نَفْسِهِ، فَإِنَّ أَيَّ نَوْعٍ مِنْهُ قَدْ يَشْغَلُهُ وَيُنْسِيهِ نَفْسَهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الِاشْتِغَالُ بِهِ ضَرُورِيًّا، وَلَا مِنْ حَاجَاتِ الْمَعِيشَةِ الْمُعْتَدِلَةِ، أَمَا تَرَى الْمُغْرَمِينَ فِيهَا بِاللَّعِبِ وَاللهْوِ كَالشِّطْرَنْجِ، وَالنَّرْدِ، وَمَا فِي مَعْنَاهُمَا - وَهُوَ كَثِيرٌ فِي هَذَا الزَّمَانِ - كَيْفَ يُسْرِفُونَ فِي حَيَاتِهِمْ، وَيُفْنُونَ أَعْمَارَهُمْ بَيْنَ جُدْرَانِ بُيُوتِ اللهْوِ كَالْقَهَاوِي وَالْحَانَاتِ. كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ ; لِأَنَّهُمْ مَغْرُورُونَ مَخْدُوعُونَ إِلَّا مَنْ وَفَّقَهُ اللهُ لِصَرْفِ مُعْظَمِ زَمَنِهِ فِي عِلْمٍ يَرْقَى بِهِ عَقْلُهُ، وَعِبْرَةٍ تَتَزَكَّى بِهَا نَفْسُهُ، وَعَمَلٍ صَالِحٍ يَنْتَفِعُ بِهِ، وَيَنْفَعُ بِهِ عِبَادَ اللهِ - تَعَالَى - مَعَ النِّيَّةِ الصَّالِحَةِ، وَالْقَلْبِ السَّلِيمِ، وَمَا أَحْسَنَ وَصِيَّةَ الْحَلَّاجِ الْأَخِيرَةَ لِمُرِيدِهِ قُبَيْلَ قَتْلِهِ: " عَلَيْكَ بِنَفْسِكَ إِنْ لَمْ تَشْغَلْهَا شَغَلَتْكَ ".
وَلَيْسَ لِمَتَاعِ الدُّنْيَا غَايَةٌ يَنْتَهِي الْعَامِلُ إِلَيْهَا فَتَسْكُنَ نَفْسُهُ، وَيَطْمَئِنَّ قَلْبُهُ بَلِ الْمَزِيدُ مِنْهُ يُغْرِي بِزِيَادَةِ الْإِسْرَافِ فِي الطَّلَبِ، فَلَا يَنْتَهِي أَرَبٌ مِنْهُ إِلَّا إِلَى أَرَبٍ، قَالَ الشَّاعِرُ:
فَمَا قَضَى أَحَدٌ مِنَّا لُبَانَتَهُ ... وَلَا انْتَهَى أَرَبٌ إِلَّا إِلَى أَرَبِ
فَمِنْ هَدْيِ الدِّينِ تَنْبِيهُ النَّاسِ إِلَى ذَلِكَ حَتَّى لَا تَغْلِبَ عَلَيْهِمُ الْحَيَوَانِيَّةُ فَيَكُونُوا مِنَ الْهَالِكِينَ.
لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ قَالَ الرَّازِيُّ: اعْلَمْ أَنَّهُ - تَعَالَى - لَمَّا سَلَّى الرَّسُولَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَوْلِهِ: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ زَادَ فِي تَسْلِيَتِهِ بِهَذِهِ الْآيَةِ، فَبَيَّنَ أَنَّ الْكُفَّارَ بَعْدَ أَنْ آذَوُا الرَّسُولَ، وَالْمُسْلِمِينَ يَوْمَ أُحُدٍ فَسَيُؤْذُونَهُمْ أَيْضًا فِي الْمُسْتَقْبَلِ بِكُلِّ طَرِيقٍ يُمْكِنُهُمْ مِنَ الْإِيذَاءِ بِالنَّفْسِ، وَالْإِيذَاءِ بِالْمَالِ، وَالْغَرَضُ مِنْ هَذَا الْإِعْلَامِ أَنْ يُوَطِّنُوا أَنْفُسَهُمْ عَلَى الصَّبْرِ، وَتَرْكِ الْجَزَعِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا لَمْ يَعْلَمْ نُزُولَ الْبَلَاءِ عَلَيْهِ، فَإِذَا نَزَلَ الْبَلَاءُ شَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ، أَمَّا إِذَا كَانَ عَالِمًا بِأَنَّهُ سَيَنْزِلُ، فَإِذَا نَزَلَ لَمْ يَعْظُمْ وَقْعُهُ عَلَيْهِ.
أَقُولُ: وَعِبَارَةُ الْكَشَّافِ خُوطِبَ الْمُؤْمِنُونَ بِذَلِكَ لِيُوَطِّنُوا أَنْفُسَهُمْ عَلَى مَا سَيَلْقَوْنَ مِنَ الْأَذَى، وَالشَّدَائِدِ وَالصَّبْرِ عَلَيْهَا حَتَّى إِذَا لَقُوهَا وَهُمْ مُسْتَعِدُّونَ لَا يُرْهِقُهُمْ مَا يُرْهِقُ مَنْ تُصِيبُهُ الشِّدَّةُ بَغْتَةً فَيُنْكِرُهَا وَتَشْمَئِزُّ مِنْهَا نَفْسُهُ.
الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: يَصِحُّ اتِّصَالُ هَذِهِ الْآيَةِ بِمَا قَبْلَهَا مِنْ قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ الْآيَاتِ، فَإِنَّ فِيهَا ذِكْرَ الْبُخْلِ بِالْمَالِ، وَذِكْرَ حَالِ الْيَهُودِ، وَهَذِهِ تُذَكِّرُ الْبَلَاءَ بِالْمَالِ، وَمَا سَيُلَاقِي الْمُؤْمِنُونَ مِنْ أُولَئِكَ الْيَهُودِ، وَغَيْرِهِمْ، وَيَصِحُّ أَنْ يَكُونَ عَلَى مَا قَالَهُ بَعْضُهُمْ مُتَّصِلًا
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute