للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

بِمَا هُوَ قَبْلَ ذَلِكَ مِنْ أَوَّلِ وَقْعَةِ أُحُدٍ إِلَى هُنَا، كَأَنَّهُ يَقُولُ: إِنَّ مَا وَقَعَ مِنَ الِابْتِلَاءِ فِي الْأَنْفُسِ، وَالْأَمْوَالِ، وَالطَّعْنِ فِي تِلْكَ الْوَقْعَةِ لَيْسَ آخِرَ الِابْتِلَاءِ، بَلْ لَا بُدَّ أَنْ تُبْلَوْا بَعْدَ ذَلِكَ بِكُلِّ هَذِهِ الضُّرُوبِ مِنْهُ وَتَجْرِي فِيكُمْ سُنَّتُهُ - تَعَالَى - فِي خَلْقِهِ، فَلَا تَظُنُّوا أَنَّكُمْ جَلَسْتُمْ عَلَى عَرْشِ الْعِزَّةِ وَاعْتَصَمْتُمْ بِالْمَنَعَةِ، وَأَمِنْتُمْ حَوَادِثَ الْكَوْنِ ; فَإِنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يُعَامِلَكُمُ اللهُ - تَعَالَى - كَمَا يُعَامِلُ الْأُمَمَ مُعَامَلَةَ الْمُخْتَبِرِ الْمُبْتَلِي لَا لِيَعْلَمَ مَا لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُ مِنْ أَمْرِكُمْ فَهُوَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ، بَلْ لِيَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ مِنْ بَعْدُ، كَمَا مَازَ الْكَثِيرِينَ فِي وَقْعَةِ أُحُدٍ.

قَالَ: وَالِابْتِلَاءُ فِي الْأَمْوَالِ يُفَسَّرُ بِفَرْضِ الصَّدَقَاتِ، وَبِالْبَذْلِ فِي سَبِيلِ اللهِ - وَهُوَ كُلُّ مَا يُوصِلُ إِلَى الْخَيْرِ - وَبِالْجَوَائِحِ وَالْآفَاتِ وَهَذَا الْجَمْعُ أَوْلَى مِمَّا ذَهَبَ إِلَيْهِ بَعْضُهُمْ مِنْ تَخْصِيصِهِ بِالْأَوَّلِ، وَبَعْضُهُمْ مِنْ تَخْصِيصِهِ بِالثَّانِي. وَالِابْتِلَاءُ فِي الْأَنْفُسِ يَكُونُ بِتَكْلِيفِ بَذْلِهَا فِي سَبِيلِ اللهِ، وَبِمَوْتِ مَنْ يُحِبُّ الْإِنْسَانُ مِنَ الْأَهْلِ وَالْأَصْدِقَاءِ (أَقُولُ: وَكَذَا الِابْتِلَاءُ بِالْمَصَائِبِ الْبَدَنِيَّةِ كَالْأَمْرَاضِ وَالْجُرُوحِ) ، وَالِابْتِلَاءُ بِالتَّكْلِيفِ هُوَ أَهَمُّ الِابْتِلَاءَيْنِ، وَذَلِكَ أَنَّ اللهَ - تَعَالَى - لَمْ يَكْفُلْ لِلْمُسْلِمِينَ الْحِفْظَ، وَالنَّصْرَ، وَالسِّيَادَةَ لِأَنَّهُمْ مُسْلِمُونَ، وَإِنَّمَا يُكَلِّفُهُمُ الْجَرْيَ عَلَى سُنَّتِهِ - تَعَالَى - كَغَيْرِهِمْ، فَلَا بُدَّ لَهُمْ مِنْ الِاسْتِعْدَادِ لِلْمُدَافَعَةِ دَائِمًا، وَذَلِكَ يَقْتَضِي بَذْلَ الْمَالِ، وَالنَّفْسِ، وَمِنْ هُنَا تَعْلَمُ غَلَطَ الَّذِينَ يُفَسِّرُونَ الِابْتِلَاءَ بِالْمَالِ، وَالْأَمْرَ بِبَذْلِهِ، وَالْجِهَادَ بِهِ كُلَّ ذَلِكَ بِالزَّكَاةِ، وَمَا الزَّكَاةُ إِلَّا نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ الْحُقُوقِ الَّتِي جَعَلَهَا اللهُ فِي الْمَالِ وَهِيَ كَثِيرَةٌ تَشْمَلُ كُلَّ مَا بِهِ صَلَاحُ الْأُمَّةِ، وَرَفْعُ شَأْنِهَا مِنَ الْأَعْمَالِ، وَكُلَّ مَا يَدْفَعُ عَنْهَا الْأَعْدَاءَ، وَيَرُدُّ عَنْهَا الْمَكَارِهَ وَالْأَسْوَاءَ، (يَعْنِي كَالْأَعْمَالِ الَّتِي تُعْمَلُ لِلْوِقَايَةِ مِنَ الْأَمْرَاضِ وَالْأَوْبِئَةِ) ، وَمِنْ ذَلِكَ الِابْتِلَاءُ فِي الْمُدَافَعَةِ عَنِ الْحَقِّ سَوَاءٌ كَانَ بِالْمَالِ، أَوْ بِالنَّفْسِ، فَهُوَ يُوَطِّنُ نُفُوسَهُمْ عَلَى الْأَخْذِ بِالِاحْتِيَاطِ فِي الْأُمُورِ الْعَامَّةِ، وَالِاسْتِعَانَةِ عَلَيْهَا بِالْمَالِ، وَتَحَمُّلِ الْمَكَارِهِ، وَيُحَذِّرُهُمْ مِنَ الشَّرَهِ، وَالطَّمَعِ فِي الْمَالِ حَتَّى إِذَا طَمِعُوا، أَوْ قَصَّرُوا فِي الِاحْتِيَاطِ - كَمَا وَقَعَ لَهُمْ فِي أُحُدٍ - عَلِمُوا أَنَّهُمْ مَا أُصِيبُوا إِلَّا

بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيهِمْ، أَوْ قَصَّرَتْ فِيهِ هِمَمُهُمْ فَلَا يَتَعَلَّلُونَ، وَلَا يَقُولُونَ كَيْفَ أُصِبْنَا وَنَحْنُ مُسْلِمُونَ؟ وَقَدَّمَ ذِكْرَ الْمَالِ لِأَنَّهُ هُوَ الْوَسِيلَةُ الَّتِي يَكُونُ بِهَا الِاسْتِعْدَادُ لِبَذْلِ النَّفْسِ، فَبَذْلُ الْمَالِ يُحْتَاجُ إِلَيْهِ قَبْلَ بَذْلِ النَّفْسِ، أَوْ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ كَثِيرًا مَا يَبْذُلُ نَفْسَهُ دِفَاعًا عَنْ مَالِهِ، فَالَّذِينَ قَالُوا إِنَّ الْمَالَ شَقِيقُ الرُّوحِ لَاحَظُوا الْغَالِبَ، وَمِنْ غَيْرِ الْغَالِبِ أَنْ يُقَدِّمَ الْإِنْسَانُ مَالَهُ عَلَى نَفْسِهِ. عَلِمْنَا أَنَّ فَائِدَةَ الِابْتِلَاءِ هِيَ تَمْيِيزُ الْخَبِيثِ مِنَ الطَّيِّبِ، وَأَمَّا الْإِخْبَارُ بِهِ فَفَائِدَتُهُ التَّعْرِيفُ بِالسُّنَنِ الْإِلَهِيَّةِ، وَتَهْيِئَةُ الْمُؤْمِنِ لَهَا، وَحَمْلُهُ عَلَى الِاسْتِعْدَادِ لِمُقَاوَمَتِهَا، فَإِنَّ مَنْ تَحْدُثُ لَهُ النِّعْمَةُ فَجْأَةً عَلَى غَيْرِ اسْتِعْدَادٍ وَلَا سَعْيٍ تُرْجَى هِيَ مِنْ وَرَائِهِ تُدْهِشُهُ وَتُبْطِرُهُ، وَرُبَّمَا تُهَيِّجُ عَصَبَهُ فَيَقَعُ فِي دَاءٍ أَوْ يَمُوتُ فَجْأَةً، وَكَذَلِكَ مَنْ تَقَعُ بِهِ الْمُصِيبَةُ فَجْأَةً عَلَى غَيْرِ اسْتِعْدَادٍ يَعْظُمُ عَلَيْهِ الْأَمْرُ، وَيُحِيطُ بِهِ الْغَمُّ حَتَّى يَقْتُلَهُ فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ، أَمَّا الْمُسْتَعِدُّ فَإِنَّهُ يَكُونُ ضَلِيعًا قَوِيًّا.

<<  <  ج: ص:  >  >>