فَطَفِقُوا يُحِلُّونَ بَعْضَهَا وَيُحَرِّمُونَ بَعْضًا بِوَسَاوِسِ شَيَاطِينِهِمْ وَتَقْلِيدِ رُؤَسَائِهِمْ، وَأُعْطُوا مِيزَانًا يُمَيِّزُونَ بِهِ الْخَوَاطِرَ الشَّيْطَانِيَّةَ الضَّارَّةَ مِنْ غَيْرِهَا، فَمَا أَقَامُوا بِهِ وَلَا لَهُ وَزْنًا، وَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَرَامَ مِنَ الْحَلَالِ لَكِنَّهُمْ نَفَضُوا أَيْدِيهِمْ مِنْ عِزِّ الِاسْتِقْلَالِ بِالِاسْتِدْلَالِ، وَهَوَّنَ عَلَيْهِمُ التَّقْلِيدُ ذُلَّ الْقُيُودِ وَالْأَغْلَالِ، فَهُوَ يَقُولُ: كُلُوا مِنْ هَذِهِ الطَّيِّبَاتِ وَلَا تُضَيِّقُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ مِثْلَهُمْ (وَاشْكُرُوا لِلَّهِ) الَّذِي خَلَقَهَا لَكُمْ وَسَهَّلَ عَلَيْكُمْ أَسْبَابَهَا بِأَنْ
تَتَّبِعُوا سُنَّتَهُ الْحَكِيمَةَ فِي طَلَبِ هَذِهِ الطَّيِّبَاتِ وَاسْتِخْرَاجِهَا، وَفِي اسْتِعْمَالِهَا فِيمَا خُلِقَتْ لِأَجْلِهِ، وَبِالثَّنَاءِ عَلَيْهِ جَلَّ جَلَالُهُ وَعَمَّ نَوَالُهُ، وَاعْتِقَادِ أَنَّ هَذِهِ الطَّيِّبَاتِ مِنْ فَضْلِهِ وَإِحْسَانِهِ لَيْسَ لِمَنِ اتُّخِذُوا أَنْدَادًا لَهُ تَأْثِيرٌ فِيهَا، وَلِذَلِكَ قَالَ: (إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) أَيْ: إِنْ كُنْتُمْ تَخُصُّونَهُ بِالْعِبَادَةِ وَتُؤْمِنُونَ بِانْفِرَادِهِ بِالسُّلْطَةِ وَالتَّدْبِيرِ فَاشْكُرُوا لَهُ خَلْقَ هَذِهِ النِّعَمِ وَإِبَاحَتَهَا لَكُمْ، وَلَا تَجْعَلُوا لَهُ أَنْدَادًا تَطْلُبُونَ مِنْهُمُ الرِّزْقَ أَوْ تَرْجِعُونَ إِلَيْهِمْ بِالتَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ ; فَإِنَّ ذَلِكَ لَهُ وَحْدَهُ وَإِلَّا كُنْتُمْ مُشْرِكِينَ بِهِ كَافِرِينَ لِنِعَمِهِ، كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ جَهِلُوا مَعْنَى عِبَادَةِ اللهِ تَعَالَى فَاتَّخَذُوا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ وُسَطَاءَ فِي طَلَبِ الرِّزْقِ، وَرُؤَسَاءَ يَشْرَعُونَ لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَشْرَعْهُ، وَيُحِلُّونَ لَهُمْ وَيُحَرِّمُونَ عَلَيْهِمْ مَا لَمْ يَشْرَعْهُ لَهُمْ. وَمِنَ الشُّكْرِ لَهُ تَعَالَى اسْتِعْمَالُ الْقُوَى الَّتِي غُذِّيَتْ بِتِلْكَ الطَّيِّبَاتِ فِي نَفْعِ أَنْفُسِكُمْ وَأُمَّتِكُمْ وَجِنْسِكُمْ. وَلَيْسَ مِنَ الطَّيِّبَاتِ مَا يَأْخُذُهُ شُيُوخُ الطَّرِيقِ مِنْ مُرِيدِيهِمْ بَلْ هُوَ مِنَ الْخَبَائِثِ وَالسُّحْتِ.
الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: لَا يَفْهَمُ هَذِهِ الْآيَةَ حَقَّ فَهْمِهَا إِلَّا مَنْ كَانَ عَارِفًا بِتَارِيخِ الْمِلَلِ عِنْدَ ظُهُورِ الْإِسْلَامِ وَقَبْلَهُ، فَإِنَّ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلَ الْكِتَابِ كَانُوا فِرَقًا وَأَصْنَافًا، مِنْهُمْ مَنْ حَرَّمَ عَلَى نَفْسِهِ أَشْيَاءَ مُعَيَّنَةً بِأَجْنَاسِهَا أَوْ أَصْنَافًا كَالْبَحِيرَةِ وَالسَّائِبَةِ عِنْدَ الْعَرَبِ، وَكَبَعْضِ الْحَيَوَانَاتِ عِنْدَ غَيْرِهِمْ، وَكَانَ الْمَذْهَبُ الشَّائِعُ فِي النَّصَارَى أَنَّ أَقْرَبَ مَا يُتَقَرَّبُ بِهِ إِلَى اللهِ تَعَالَى تَعْذِيبُ النَّفْسِ وَاحْتِقَارُهَا وَحِرْمَانُهَا مِنْ جَمِيعِ الطَّيِّبَاتِ الْمُسْتَلَذَّةِ، وَاحْتِقَارُ الْجَسَدِ وَلَوَازِمِهِ، وَاعْتِقَادُ أَنْ لَا حَيَاةَ لِلرُّوحِ إِلَّا بِذَلِكَ، وَأَنَّ اللهَ تَعَالَى لَا يَرْضَى مِنَّا إِلَّا إِحْيَاءَ الرُّوحِ، وَكَانَ الْحِرْمَانُ مِنَ الطَّيِّبَاتِ عَلَى أَنْوَاعٍ، مِنْهَا مَا هُوَ خَاصٌّ بِالْقِدِّيسِينَ، أَوْ بِالرُّهْبَانِ وَالْقِسِّيسِينَ، وَمِنْهَا مَا هُوَ عَامُّ كَأَنْوَاعِ الصَّوْمِ الْكَثِيرَةِ كَصَوْمِ الْعَذْرَاءِ وَصَوْمِ الْقِدِّيسِينَ، وَفِي بَعْضِهَا يُحَرِّمُونَ اللَّحْمَ وَالسَّمْنَ دُونَ السَّمَكِ، وَفِي بَعْضِهَا يُحَرِّمُونَ السَّمَكَ وَاللَّبَنَ وَالْبَيْضَ أَيْضًا، وَكُلُّ هَذِهِ الْأَحْكَامِ وَالشَّرَائِعِ قَدْ وَضَعَهَا الرُّؤَسَاءُ وَلَيْسَ لَهَا أَثَرٌ يُنْقَلُ عَنِ التَّوْرَاةِ أَوْ عَنِ الْمَسِيحِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَبِذَلِكَ كَانُوا أَنْدَادًا، وَنَزَلَ فِي شَأْنِهِمْ (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ) (٩: ٣١) وَتَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ وَقَدْ سَرَتْ
إِلَيْهِمْ هَذِهِ الْأَحْكَامُ بِالْوِرَاثَةِ عَنْ آبَائِهِمُ الْوَثَنِيِّينَ الَّذِينَ كَانُوا يُحَرِّمُونَ كَثِيرًا مِنَ الطَّيِّبَاتِ، وَيَرَوْنَ أَنَّ التَّقَرُّبَ إِلَى اللهِ مَحْصُورٌ فِي تَعْذِيبِ النَّفْسِ وَتَرْكِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute