وَالْآيَةُ صَرِيحَةٌ فِي أَنَّ التَّقْلِيدَ بِغَيْرِ عَقْلٍ وَلَا هِدَايَةٍ هُوَ شَأْنُ الْكَافِرِينَ، وَأَنَّ الْمَرْءَ لَا يَكُونُ مُؤْمِنًا إِلَّا إِذَا عَقَلَ دِينَهُ وَعَرِفَهُ بِنَفْسِهِ حَتَّى اقْتَنَعَ بِهِ. فَمَنْ رُبِّيَ عَلَى التَّسْلِيمِ بِغَيْرِ عَقْلٍ، وَالْعَمَلِ - وَلَوْ صَالِحًا - بِغَيْرِ فِقْهٍ، فَهُوَ غَيْرُ مُؤْمِنٍ، لِأَنَّهُ لَيْسَ الْقَصْدُ مِنَ الْإِيمَانِ أَنْ يُذَلَّلَ الْإِنْسَانُ لِلْخَيْرِ كَمَا يُذَلَّلُ الْحَيَوَانُ، بَلِ الْقَصْدُ مِنْهُ أَنْ يَرْتَقِيَ عَقْلُهُ وَتَتَزَكَّى نَفْسُهُ بِالْعِلْمِ بِاللهِ وَالْعِرْفَانِ فِي دِينِهِ، فَيَعْمَلُ الْخَيْرَ ; لِأَنَّهُ يَفْقَهُ أَنَّهُ الْخَيْرُ النَّافِعُ الْمُرْضِيُّ لِلَّهِ، وَيَتْرُكُ الشَّرَّ ; لِأَنَّهُ يَفْهَمُ سُوءَ عَاقِبَتِهِ وَدَرَجَةَ مَضَرَّتِهِ فِي دِينِهِ وَدُنْيَاهُ، وَيَكُونُ فَوْقَ هَذَا عَلَى بَصِيرَةٍ وَعَقْلٍ فِي اعْتِقَادِهِ، فَلَا يَأْخُذُهُ بِالتَّسْلِيمِ لِأَجْلِ آبَائِهِ وَأَجْدَادِهِ، وَلِذَلِكَ وَصَفَ اللهُ الْكَافِرِينَ بَعْدَ تَقْرِيرِ الْمَثَلِ بِأَنَّهُمْ (صُمٌّ) لَا يَسْمَعُونَ الْحَقَّ سَمَاعَ تَدَبُّرٍ وَفَهْمٍ (بُكْمٌ) لَا يَنْطِقُونَ بِهِ عَنِ اعْتِقَادٍ وَعِلْمٍ (عُمْيٌ) لَا يَنْظُرُونَ فِي آيَاتِ اللهِ فِي أَنْفُسِهِمْ
وَفِي الْآفَاقِ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ (فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ) مَبْدَأَ مَا هُمْ فِيهِ وَلَا غَايَتَهُ كَمَا يُطْلَبُ مِنَ الْإِنْسَانِ، وَإِنَّمَا يَنْقَادُونَ لِغَيْرِهِمْ كَمَا هُوَ شَأْنُ الْحَيَوَانِ، وَلِذَلِكَ اتَّبَعُوا مَنْ لَا يَعْقِلُونَ وَلَا يَهْتَدُونَ، فَالْعَاقِلُ لَا يُقَلِّدُ عَاقِلًا مِثْلَهُ، فَأَجْدَرُ بِهِ أَلَّا يُقَلِّدَ جَاهِلًا ضَالًّا هُوَ دُونَهُ.
(يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)
بَيَّنَ اللهُ تَعَالَى حَالَ الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْأَنْدَادَ مِنْ دُونِهِ وَأَشَارَ إِلَى أَنَّ سَبَبَ ذَلِكَ حُبُّ الْحُطَامِ، وَارْتِبَاطُ مَصَالِحِ الْمَرْءُوسِينَ بِمَصَالِحِ الرُّؤَسَاءِ فِي الرِّزْقِ وَالْجَاهِ، وَخَاطَبَ النَّاسَ كُلَّهُمْ بِأَنْ يَأْكُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ إِذْ أَبَاحَ لَهُمْ جَمِيعَ خَيْرَاتِهَا وَبَرَكَاتِهَا بِشَرْطِ أَنْ تَكُونَ حَلَالًا طَيِّبًا، وَبَيَّنَ سُوءَ حَالِ الْكَافِرِينَ الْمُقَلِّدِينَ الَّذِينَ يَقُودُهُمُ الرُّؤَسَاءُ كَمَا يَقُودُ الرَّاعِي الْغَنَمَ ; لِأَنَّهُمْ لَا اسْتِقْلَالَ لَهُمْ فِي عَقْلٍ وَلَا فَهْمٍ، ثُمَّ وَجَّهَ الْخِطَابَ إِلَى الْمُؤْمِنِينَ خَاصَّةً ; لِأَنَّهُمْ أَحَقُّ بِالْفَهْمِ، وَأَجْدَرُ بِالْعِلْمِ وَأَحْرَى بِالِاهْتِدَاءِ فَقَالَ:
(يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ) الْأَمْرُ هُنَا لِلْوُجُوبِ لَا لِلْإِبَاحَةِ، وَالطَّيِّبَاتُ مَا طَابَ كَسْبُهُ مِنَ الْحَلَالِ، وَيَسْتَلْزِمُ عَدَمُ تَحْرِيمِ شَيْءٍ مِنْهَا وَالِامْتِنَاعُ عَنْهَا تَدَيُّنًا لِتَعْذِيبِ النَّفْسِ، وَهَذَا تَنْبِيهٌ بَعْدَ مَا تَقَدَّمَ إِلَى عَدَمِ الِالْتِفَاتِ إِلَى أُولَئِكَ الْحَمْقَى الَّذِينَ أُبِيحَتْ لَهُمْ خَيْرَاتُ الْأَرْضِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute