للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

الشَّهِيقُ طُولُ الزَّفِيرِ وَهُوَ رَدُّ النَّفْسِ، وَالزَّفِيرُ مَدُّهُ. وَقَالَ فِي اللِّسَانِ: الشَّهِيقُ أَقْبَحُ الْأَصْوَاتِ، شَهِقَ كَعَلِمَ وَضَرَبَ، شَهِيقًا وَشُهَاقًا: رَدَّدَ الْبُكَاءَ فِي صَدْرِهِ اهـ.

وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ تَنَفُّسَ الصُّعَدَاءِ مِنَ الْهَمِّ وَالْكَرْبِ إِذَا امْتَدَّ وَاشْتَدَّ فَسُمِعَ صَوْتُهُ كَانَ زَفِيرًا، وَأَنَّ النَّشِيجَ فِي الْبُكَاءِ إِذَا اشْتَدَّ تَرَدُّدُهُ فِي الصَّدْرِ وَارْتَفَعَ بِهِ الصَّوْتُ سُمِّيَ شَهِيقًا، وَأَصْلُ اشْتِقَاقِهِ مِنَ الشُّهُوقِ، وَقَوْلُهُمْ: جَبَلٌ شَاهِقٌ.

وَمَا أَبْلَغَ قَوْلِ شَيْخِنَا فِي مُقَدِّمَةِ الْعُرْوَةِ الْوُثْقَى يَصِفُ كَرْبَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ شِدَّةِ اعْتِدَاءِ الْمُسْتَعْمِرِينَ الظَّالِمِينَ: وَسَرَى الْأَلَمُ فِي أَرْوَاحِ الْمُؤْمِنِينَ سَرَيَانَ الِاعْتِقَادِ فِي مَدَارِكِهِمْ، وَهُمْ مِنْ تِذْكَارِ الْمَاضِي وَمُرَاقَبَةِ الْحَاضِرِ يَتَنَفَّسُونَ الصُّعَدَاءَ، وَلَا نَأْمَنُ أَنْ يَصِيرَ التَّنَفُّسُ زَفِيرًا بَلْ نَفِيرًا عَامًّا، بَلْ يَكُونُ صَاخَّةً تُمَزِّقُ مَنْ أَصَمَّهُ الطَّمَعُ.

- خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ - أَيْ مَاكِثِينَ فِيهَا مُكْثَ بَقَاءٍ وَخُلُودٍ، لَا يَبْرَحُونَهَا مُدَّةَ دَوَامِ السَّمَوَاتِ الَّتِي تُظِلُّهُمْ وَالْأَرْضِ الَّتِي تُقِلُّهُمْ، وَهَذَا بِمَعْنَى قَوْلِهِ فِي آيَاتٍ أُخْرَى: - خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا - فَإِنَّ الْعَرَبَ تَسْتَعْمِلُ هَذَا التَّعْبِيرَ بِمَعْنَى الدَّوَامِ، وَغَلَطَ مَنْ قَالُوا: الْمُرَادُ مُدَّةُ دَوَامِهَمَا فِي الدُّنْيَا، فَإِنَّ هَذِهِ الْأَرْضَ تُبَدَّلُ وَتَزُولُ بِقِيَامِ السَّاعَةِ، وَسَمَاءُ كُلٍّ مِنْ أَهْلِ النَّارِ وَأَهْلِ الْجَنَّةِ مَا هُوَ فَوْقَهُمْ، وَأَرْضُهُمْ مَا هُمْ مُسْتَقِرُّونَ عَلَيْهِ وَهُوَ تَحْتَهُمْ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لِكُلِّ جَنَّةٍ أَرْضٌ وَسَمَاءٌ. وَرُوِيَ مِثْلُهُ عَنِ السُّدِّيِّ وَالْحَسَنِ - إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ - أَيْ: أَنَّ هَذَا الْخُلُودَ الدَّائِمَ هُوَ الْمُعَدُّ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ، الْمُنَاسِبُ لِصِفَةِ أَنْفُسِهِمُ الْجَهُولِ الظَّالِمَةِ الَّتِي أَحَاطَتْ بِهِمْ ظُلْمَةُ خَطِيئَاتِهَا وَفَسَادُ أَخْلَاقِهَا - كَمَا فَصَّلْنَاهُ مِرَارًا - إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ مِنْ تَغْيِيرٍ فِي هَذَا النِّظَامِ فِي طَوْرٍ آخَرَ، فَهُوَ إِنَّمَا وُضِعَ بِمَشِيئَتِهِ، وَسَيَبْقَى فِي قَبْضَةِ مَشِيئَتِهِ، وَقَدْ عُهِدَ مِثْلُ هَذَا الِاسْتِثْنَاءِ فِي سِيَاقِ الْأَحْكَامِ الْقَطْعِيَّةِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى تَقْيِيدِ تَأْيِيدِهَا بِمَشِيئَتِهِ - تَعَالَى - فَقَطْ لَا لِإِفَادَةِ عَدَمِ عُمُومِهَا، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: - قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللهُ - ٧: ١٨٨ أَيْ لَا أَمْلِكُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ بِقُدْرَتِي وَإِرَادَتِي إِلَّا مَا شَاءَ اللهُ أَنْ يُمَلِّكَنِيهِ مِنْهُ بِتَسْخِيرِ أَسْبَابِهِ وَتَوْفِيقِهِ وَمِثْلُهُ فِي (١٠: ٤٩) مَعَ تَقْدِيمِ الضَّرِّ. وَقَوْلُهُ: - سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى

إِلَّا مَا شَاءَ اللهُ - ٨٧: ٦ و٧ عَلَى أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ لِتَأْكِيدِ النَّفْيِ، أَيْ: إِنَّهُ - تَعَالَى - ضَمِنَ لِنَبِيِّهِ حِفْظَ الْقُرْآنِ الَّذِي يُقْرِئُهُ إِيَّاهُ بِقُدْرَتِهِ، وَعَصَمَهُ أَلَّا يَنْسَى مِنْهُ شَيْئًا بِمُقْتَضَى الضَّعْفِ الْبَشَرِيِّ، فَهُوَ لَا يَقَعُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ بِمَشِيئَةِ اللهِ، فَهُوَ وَحْدَهُ هُوَ الْقَادِرُ عَلَيْهِ - إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ - فَهُوَ إِنْ شَاءَ غَيْرَ ذَلِكَ فَعَلَهُ، مَا شَاءَ كَانَ، وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ، وَإِنَّمَا تَتَعَلَّقُ مَشِيئَتُهُ بِمَا سَبَقَ بِهِ عِلْمُهُ وَاقْتَضَتْهُ حِكْمَتُهُ، وَمَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ إِخْلَافًا لِشَيْءٍ مِنْ وَعْدِهِ وَلَا مِنْ وَعِيدِهِ كَخُلُودِ أَهْلِ النَّارِ فِيهَا، فَإِنَّ هَذَا الْوَعِيدَ مُقَيَّدٌ بِمَشِيئَتِهِ، وَهِيَ تَجْرِي بِمُقْتَضَى عِلْمِهِ وَحِكْمَتِهِ، وَلِهَذَا قَالَ فِي مِثْلِ هَذَا اسْتِثْنَاءً مِنْ سُورَةِ الْأَنْعَامِ: - قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ - ٦: ١٢٨

<<  <  ج: ص:  >  >>