للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

مِنَ الصِّفَةِ الْحَسَنَةِ أَتْبَعَهُ - تَعَالَى - بِوَعِيدِ الْكُفَّارِ فَقَالَ: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللهِ شَيْئًا وَأَقُولُ: قَدِ اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي الْمُرَادِ بِالَّذِينِ كَفَرُوا، فَقِيلَ: هُمْ بَنُو قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرِ مِنَ الْيَهُودِ، وَرُوِيَ هَذَا الْقَوْلُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ (رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا) وَهُوَ الْمُلَائِمُ لِلسِّيَاقِ مِنْ حَيْثُ كَانَتِ الْآيَاتُ قَبْلَهُ فِي مُؤْمِنِي أَهْلِ الْكِتَابِ، وَمِنْ حَيْثُ حَرَصَ الْيَهُودُ عَلَى الْمَالِ وَالْحَيَاةِ وَأَعَزُّهَا وَآثَرُهَا حَيَاةُ الْأَوْلَادِ، وَقِيلَ: هُمْ مُشْرِكُو قُرَيْشٍ عَامَّةً، وَقِيلَ: بَلْ هُمْ أَبُو سُفْيَانَ وَرَهْطُهُ خَاصَّةً، وَوَجَّهُوهُ بِمَا نُقِلَ مِنْ إِنْفَاقِهِ الْمَالَ الْكَثِيرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ بَدْرٍ

وَيَوْمَ أُحُدٍ، وَقِيلَ: إِنَّ الْكَلَامَ فِي الْكُفَّارِ عَامَّةً لِعُمُومِ اللَّفْظِ فَهُوَ عَلَى إِطْلَاقِهِ وَيَدْخُلُ فِيهِ الْيَهُودُ الَّذِينَ كَانُوا مُجَاوِرِينَ لِلْمُسْلِمِينَ يَوْمَئِذٍ وَكَذَا مُشْرِكُو مَكَّةَ دُخُولًا أَوَّلِيًّا، قَالُوا: إِنَّهُمْ كُلَّهُمْ كَانُوا يَتَعَزَّزُونَ بِكَثْرَةِ الْأَمْوَالِ وَيُعَيِّرُونَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَتْبَاعَهُ بِالْفَقْرِ وَيَقُولُونَ: لَوْ كَانَ مُحَمَّدٌ عَلَى الْحَقِّ مَا تَرَكَهُ رَبُّهُ فِي هَذَا الْفَقْرِ وَالشِّدَّةِ، وَقِيلَ: هُمُ الْمُنَافِقُونَ إِذْ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مِنَ الْأَغْنِيَاءِ، وَمَنْ كَانَ كَثِيرَ الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ قَلَّمَا يَشْعُرُ بِحَاجَتِهِ إِلَى مَا عِنْدَ غَيْرِهِ مِنْ هِدَايَةٍ أَوْ عِلْمٍ أَوْ أَدَبٍ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى [٩٦: ٦، ٧] وَقَدْ سَبَقَ لَنَا بَيَانُ ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ - تَعَالَى - مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللهِ شَيْئًا [٣: ١٠] الْآيَةَ.

وَقَدْ فَسَّرَ (الْجَلَالُ) كَغَيْرِهِ (تُغْنِيَ) بِتَدْفَعَ، أَيْ لَا تَدْفَعُ شَيْئًا مِنَ الْعَذَابِ عَنْهُمْ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنَ الْغَنَاءِ بِمَعْنَى الْكِفَايَةِ، وَلِذَلِكَ رَدَّ هَذَا الْقَوْلَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ وَاخْتَارَ أَنَّ (شَيْئًا) هُوَ مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ قَالَ: أَيْ لَا تُغْنِي عَنْهُمْ نَوْعًا مِنْ أَنْوَاعِ الْغَنَاءِ، أَوْ لَا تُغْنِي غَنَاءً مَا، قَالَ: وَذَكَرَ الْأَمْوَالَ وَالْأَوْلَادَ لِأَنَّ الْمَغْرُورَ إِنَّمَا يَصُدُّهُ عَنِ اتِّبَاعِ الْحَقِّ أَوِ النَّظَرِ فِي دَلِيلِهِ الِاسْتِغْنَاءُ بِمَا هُوَ فِيهِ مِنَ النِّعَمِ وَأَعْظَمُهَا الْأَمْوَالُ وَالْأَوْلَادُ، فَالَّذِي يَرَى نَفْسَهُ مُسْتَغْنِيًا بِمِثْلِ ذَلِكَ قَلَّمَا يُوَجِّهُ نَظَرَهُ إِلَى طَلَبِ الْحَقِّ أَوْ يُصْغِي إِلَى الدَّاعِي إِلَيْهِ: أَيْ وَمَنْ لَمْ يُوَجِّهْ نَظَرَهُ إِلَى الْحَقِّ لَا يُبْصِرُهُ، وَمَنْ لَمْ يُبْصِرْهُ تَخَبَّطَ فِي دَيَاجِيرِ الضَّلَالِ عُمْرَهُ حَتَّى يَتَرَدَّى فَيَهْلِكَ الْهَلَاكَ الْأَبَدِيَّ، وَلَا يَنْفَعُهُ فِي الْآخِرَةِ مَالُهُ فَيَفْتَدِي بِهِ أَوْ يَنْتَفِعُ بِمَا كَانَ أَنْفَقَهُ مِنْهُ وَلِذَلِكَ قَالَ: وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ لِأَنَّ طَبِيعَةَ أَرْوَاحِهِمُ اقْتَضَتْ أَنْ يَكُونُوا فِي تِلْكَ الْهَاوِيَةِ الْمُظْلِمَةِ الْمُسْتَعِرَةِ، ثُمَّ مَثَّلَ حَالَهُمْ فِي إِنْفَاقِ أَمْوَالِهِمُ الَّتِي فَتَنَتْهُمْ فَشَغَلَتْهُمْ عَنِ الْحَقِّ أَوْ أَغْرَتْهُمْ بِمُقَاوَمَتِهِ فَقَالَ: مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ قَالَ (الرَّاغِبُ) : مَثَلُ الشَّيْءِ - بِالتَّحْرِيكِ: مِثْلُهُ وَشِبْهُهُ، وَيُطْلَقُ عَلَى صِفَةِ الشَّيْءِ، وَالْمَثَلُ فِي الْكَلَامِ: عِبَارَةٌ عَنْ قَوْلٍ فِي شَيْءٍ يُشْبِهُ قَوْلًا فِي

شَيْءٍ آخَرَ لِيُبَيِّنَ أَحَدُهُمَا الْآخَرُ وَيُصَوِّرَهُ: أَيْ وَلَوْ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ ; لِأَنَّ بَيَانَ الْحَقَائِقِ يَكُونُ عَلَى حَسَبِ

<<  <  ج: ص:  >  >>