(٩: ٢٥، ٢٦) إِلَخْ. وَهَذَا لَا يُنَافِي كَوْنَ التَّوَلِّي حَرَامًا وَمِنَ الْكَبَائِرِ، وَلَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ كُلُّ تَوَلٍّ لِغَيْرِ السَّبَبَيْنِ الْمُسْتَثْنَيَيْنِ فِي آيَةِ الْأَنْفَالِ يَبُوءُ صَاحِبُهُ بِغَضَبٍ عَظِيمٍ مِنَ اللهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ، بَلْ قَدْ يَكُونُ دُونَ ذَلِكَ، وَيَتَقَيَّدُ بِآيَةِ رُخْصَةِ الضَّعْفِ الْآتِيَةِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ، وَبِالنَّهْيِ عَنْ إِلْقَاءِ النَّفْسِ فِي التَّهْلُكَةِ مِنْ حَيْثُ عُمُومِهَا كَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَسَيَأْتِي تَفْصِيلُهُ قَرِيبًا.
وَقَدْ رَوَى أَحْمَدُ وَأَصْحَابُ السُّنَنِ إِلَّا النَّسَائِيَّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: " كُنْتُ فِي سَرِيَّةٍ مِنْ سَرَايَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَحَاصَ النَّاسُ حَيْصَةً، وَكُنْتُ فِيمَنْ حَاصَ، - فَقُلْنَا: كَيْفَ نَصْنَعُ وَقَدْ فَرَرْنَا مِنَ الزَّحْفِ وَبُؤْنَا بِالْغَضَبِ؟ ثُمَّ قُلْنَا: لَوْ دَخَلْنَا الْمَدِينَةَ فَبِتْنَا، ثُمَّ قُلْنَا لَوْ عَرَضْنَا نُفُوسَنَا عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنْ كَانَ لَنَا تَوْبَةٌ وَإِلَّا ذَهَبْنَا. فَأَتَيْنَاهُ قَبْلَ صَلَاةِ الْغَدَاةِ فَخَرَجَ فَقَالَ: مَنْ، الْفَرَّارُونَ؟ . فَقُلْنَا: نَحْنُ الْفَرَّارُونَ. قَالَ: بَلْ أَنْتُمُ الْعَكَّارُونَ أَنَا فِئَتُكُمْ وَفِئَةُ الْمُسْلِمِينَ. قَالَ: فَأَتَيْنَاهُ حَتَّى قَبَّلْنَا يَدَهُ. وَلَفْظُ أَبِي دَاوُدَ فَقُلْنَا: نَدْخُلُ الْمَدِينَةَ فَنَبِيتُ فِيهَا لِنَذْهَبَ، وَلَا يَرَانَا أَحَدٌ، فَدَخَلْنَا فَقُلْنَا: لَوْ عَرَضْنَا أَنْفُسَنَا عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنْ كَانَتْ لَنَا تَوْبَةٌ أَقَمْنَا، وَإِنْ كَانَ غَيْرُ ذَلِكَ ذَهَبْنَا، فَجَلَسْنَا لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ صَلَاةِ الْفَجْرِ فَلَمَّا خَرَجَ قُمْنَا إِلَيْهِ فَقُلْنَا: نَحْنُ الْفَرَّارُونَ إِلَخْ ". تَأَوَّلَ بَعْضُهُمْ هَذَا الْحَدِيثَ بِتَوَسُّعٍ فِي مَعْنَى التَّحَيُّزِ إِلَى فِئَةٍ لَا يَبْقَى مَعَهُ لِلْوَعِيدِ مَعْنًى، وَلَا لِللُّغَةِ حُكْمٌ، وَقَدْ قَالَ التِّرْمِذِيُّ فِيهِ: حَسَنٌ لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ حَدِيثِ يَزِيدَ بْنِ أَبِي زِيَادٍ أَقُولُ: وَهُوَ مُخْتَلَفٌ فِيهِ، ضَعَّفَهُ الْكَثِيرُونَ. وَقَالَ ابْنُ حِبَّانَ: كَانَ صَدُوقًا إِلَّا أَنَّهُ لَمَّا كَبِرَ سَاءَ حِفْظُهُ وَتَغَيَّرَ فَوَقَعَتِ الْمَنَاكِيرُ فِي حَدِيثِهِ، فَمَنْ سَمِعَ مِنْهُ قَبْلَ التَّغَيُّرِ فَسَمَاعُهُ صَحِيحٌ، وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ لَا وَزْنَ لَهُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لَا مَتْنًا وَلَا سَنَدًا، وَفِي مَعْنَاهُ أَثَرٌ عَنْ عُمَرَ هُوَ دُونَهُ فَلَا يُوضَعُ فِي مِيزَانِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ فَهُوَ وَصْلٌ لِلنَّهْيِ عَنِ التَّوَلِّي بِمَا هُوَ حُجَّةٌ عَلَى جَدَارَتِهِمْ بِالِانْتِهَاءِ، فَإِنْ كَانَتِ الْآيَةُ الَّتِي قَبْلَهُ قَدْ نَزَلَتْ بَعْدَ انْتِهَاءِ الْقِتَالِ فِي غَزْوَةِ بَدْرٍ كَسَائِرِ السُّورَةِ كَمَا عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ فَوَجْهُ الْوَصْلِ بِالْفَاءِ ظَاهِرٌ جَلِيٌّ، كَأَنَّهُ يَقُولُ: يَا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَا تُوَلُّوا الْكُفَّارَ ظُهُورَكُمْ فِي الْقِتَالِ أَبَدًا، فَأَنْتُمْ أَوْلَى مِنْهُمْ بِالثَّبَاتِ وَالصَّبْرِ ثُمَّ بِنَصْرِ اللهِ تَعَالَى، فَهَا أَنْتُمْ أُولَاءِ قَدِ انْتَصَرْتُمْ عَلَيْهِمْ عَلَى قِلَّةِ عَدَدِكُمْ وَعُدَدِكُمْ وَكَثْرَتِهِمْ وَاسْتِعْدَادِهِمْ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute