الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ، لِمَ تَخْلِطُونَ هَذَا بِالْبَاطِلِ الَّذِي أَلْحَقَهُ بِهِ أَحْبَارُكُمْ وَرُهْبَانُكُمْ مِنَ التَّأْوِيلَاتِ وَالْآرَاءِ، وَتَجْعَلُونَ كُلَّ ذَلِكَ دِينًا يَجِبُ اتِّبَاعُهُ وَيُحْسَبُ أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللهِ كَمَا قَالَ - تَعَالَى - فِي آيَةٍ أُخْرَى تَأْتِي: وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ [٣: ٧٨] فَلُبْسُ الْحَقِّ بِالْبَاطِلِ عَامٌّ يَشْمَلُ كُلَّ مَا ذُكِرَ، وَقِيلَ هُوَ خَاصٌّ بِالْعَقَائِدِ وَالْأَحْكَامِ. وَقَوْلُهُ: وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ خَاصٌّ بِالْبِشَارَةِ بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَالصَّوَابُ: أَنَّ هَذَا عَامٌّ أَيْضًا، فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَكْتُمُونَ بَعْضَ
الْأَحْكَامِ اتِّبَاعًا لِلْهَوَى، فَيَجْعَلُونَ الْكِتَابَ قَرَاطِيسَ يُبْدُونَهَا وَيُخْفُونَ كَثِيرًا، وَيَأْكُلُونَ بِذَلِكَ السُّحْتَ، وَقَدْ بَيَّنَ اللهُ لَهُمْ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ كَثِيرًا مِمَّا كَانُوا يُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ كَمَا سَيَأْتِي فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ وَغَيْرِهَا إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى.
وَالْآيَةُ حُجَّةٌ عَلَى الْحَشْوِيَّةِ الْمُقَلِّدِينَ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ الَّذِينَ يَخْلِطُونَ الْحَقَّ الْمُنَزَّلَ بِآرَاءِ النَّاسِ وَيَجْعَلُونَ كُلَّ ذَلِكَ دِينًا سَمَاوِيًّا وَشَرْعًا إِلَهِيًّا.
ثُمَّ قَالَ - تَعَالَى -: وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ قَالَ السُّيُوطِيُّ فِي أَسْبَابِ النُّزُولِ: رَوَى ابْنُ إِسْحَاقَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ الصَّيْفِ وَعَدِيُّ بْنُ زَيْدٍ وَالْحَارِثُ بْنُ عَوْفٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: تَعَالَوْا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَأَصْحَابِهِ غُدْوَةً وَنَكْفُرُ بِهِ عَشِيَّةً حَتَّى نُلَبِّسَ عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَصْنَعُونَ كَمَا نَصْنَعُ فَيَرْجِعُونَ عَنْ دِينِهِمْ فَأَنْزَلَ اللهُ فِيهِمْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ إِلَى قَوْلِهِ: وَاسِعٌ عَلِيمٌ.
أَقُولُ: وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ قَتَادَةَ أَنَّهُ قَالَ: قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْكِتَابِ لِبَعْضٍ: " أَعْطُوهُمُ الرِّضَا بِدِينِهِمْ أَوَّلَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ فَإِنَّهُ أَجْدَرُ أَنْ يُصَدِّقُوكُمْ، وَيَعْلَمُوا أَنَّكُمْ قَدْ رَأَيْتُمْ فِيهِ مَا تَكْرَهُونَ، وَهُوَ أَجْدَرُ أَنْ يَرْجِعُوا عَنْ دِينِهِمْ " وَأَخْرَجَ أَيْضًا عَنِ السُّدِّيِّ أَنَّهُ قَالَ فِيهَا: " كَانَ أَحْبَارُ قُرًى عَرَبِيَّةٍ اثْنَيْ عَشَرَ حَبْرًا فَقَالُوا لِبَعْضِهِمْ: ادْخُلُوا فِي دِينِ مُحَمَّدٍ أَوَّلَ النَّهَارِ وَقُولُوا: نَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا حَقٌّ صَادِقٌ، فَإِذَا كَانَ آخِرُ النَّهَارِ فَاكْفُرُوا وَقُولُوا: إِنَّا رَجَعْنَا إِلَى عُلَمَائِنَا وَأَحْبَارِنَا فَسَأَلْنَاهُمْ فَحَدَّثُونَا أَنَّ مُحَمَّدًا كَاذِبٌ، وَأَنْتُمْ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ، وَقَدْ رَجَعْنَا إِلَى دِينِنَا فَهُوَ أَعْجَبُ إِلَيْنَا مِنْ دِينِكُمْ، لَعَلَّهُمْ يَشُكُّونَ فَيَقُولُونَ: هَؤُلَاءِ كَانُوا مَعَنَا أَوَّلَ النَّهَارِ فَمَا بَالُهُمْ "؟ فَأَخْبَرَ اللهُ - عَزَّ وَجَلَّ - رَسُولَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِذَلِكَ. وَرُوِيَ أَنَّهُمْ فَعَلُوا ذَلِكَ وَلَمْ يَقِفُوا عِنْدَ حَدِّ الْقَوْلِ. فَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: " يَهُودٌ صَلَّتْ مَعَ مُحَمَّدٍ صَلَاةَ الصُّبْحِ وَكَفَرُوا آخِرَ النَّهَارِ مَكْرًا مِنْهُمْ لِيُرُوا النَّاسَ أَنْ قَدْ بَدَتْ لَهُمْ مِنْهُ الضَّلَالَةُ بَعْدَ أَنْ كَانُوا اتَّبِعُوهُ ".
وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: هَذَا النَّوْعُ الَّذِي تَحْكِيهِ الْآيَةُ مِنْ صَدِّ الْيَهُودِ عَنِ الْإِسْلَامِ مَبْنِيٌّ عَلَى قَاعِدَةٍ طَبِيعِيَّةٍ فِي الْبَشَرِ، وَهِيَ أَنَّ مِنْ عَلَامَةِ الْحَقِّ أَلَّا يَرْجِعَ عَنْهُ مَنْ يَعْرِفُهُ، وَقَدْ فَقِهَ هَذَا
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute