للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وَجَزَائِهِمْ عَلَيْهَا، وَلَسْتَ أَنْتَ بِصَاحِبِ هَذَا الْحَقِّ حَتَّى يَتَأَتَّى أَنْ تَجْرِيَ فِيهِ عَلَى صِرَاطِ الْعَدْلِ، ذَلِكَ بِأَنَّ عَمَلَهُمْ هُوَ عِبَادَةُ اللهِ تَعَالَى وَحْدَهُ يُرِيدُونَ بِهَا وَجْهَهُ، فَحِسَابُهُمْ وَجَزَاؤُهُمْ عَلَيْهِ وَحْدَهُ، كَمَا قَالَ نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ: (إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ ٢٦: ١١٣) فَوَجْهُ الْكَوْنِ مِنَ الظَّالِمِينَ أَنَّ الطَّرْدَ لَوْ حَصَلَ يَكُونُ حُكْمًا غَيْرَ جَائِزٍ مِمَّنْ لَا يَمْلِكُ الْحُكْمَ لِذَاتِهِ (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ) (٥٧) وَاللهُ لَمْ يُفَوِّضْ إِلَيْهِ هَذَا النَّوْعَ مِنْهُ، ثُمَّ إِنَّهُ جَائِزٌ فِي مَوْضُوعِهِ، مَعَ كَوْنِهِ غَيْرَ جَائِزٍ فِي صُورَتِهِ وَشَكْلِهِ ; إِذْ هُوَ ظُلْمٌ لِلْمَحْكُومِ عَلَيْهِمْ؛ لِأَنَّهُمْ أَوْلَى النَّاسِ بِقُرْبِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالِاسْتِفَادَةِ مِنْهُ، وَظُلْمٌ لِنَفْسِ الْحَاكِمِ - وَحَاشَا أَنْ يَقَعَ مِنْهُ - لِأَنَّهُ يُنَافِي مَصْلَحَةَ الدَّعْوَةِ، فَلَمَّا كَانَ ظُلْمًا مِنَ الْجِهَاتِ الثَّلَاثِ قَالَ: (فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ) وَلَمْ يَقُلْ: فَتَظْلِمَهُمْ، أَوْ: فَتَكُونَ ظَالِمًا، أَوْ: فَيَكُونُوا مِنَ الْمَظْلُومِينَ.

وَالْآيَةُ مُتَمِّمَةٌ لِبَيَانِ وَظَائِفِ الرَّسُولِ مِنَ الْجِهَةِ السَّلْبِيَّةِ ; إِذْ صَرَّحَ فِيهَا بِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يَمْلِكُ حِسَابَ الْمُؤْمِنِينَ وَلَا جَزَاءَهُمْ بَعْدَ أَنْ صَرَّحَ بِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فِي الْكَوْنِ، وَلَا يَعْلَمُ الْغَيْبَ، وَبِأَنَّهُ لَيْسَ مَلِكًا، وَلَيْسَ الْغَرَضُ مِنْهَا التَّشْدِيدُ فِي تَنْفِيرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ طَرْدِ الْمُؤْمِنِينَ ; لِأَنَّهُ كَانَ رَضِيَ بِذَلِكَ كَمَا زَعَمَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ، وَحَاشَاهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَرْضَى بِذَلِكَ أَوْ يَمِيلَ إِلَيْهِ بَعْدَ أَنْ عَاتَبَهُ رَبُّهُ عَلَى الْإِعْرَاضِ وَالتَّلَهِّي عَنِ الْأَعْمَى (عَبْدِ اللهِ بْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ) لَمَّا جَاءَهُ يَطْلُبُ الْعِلْمَ وَالْهُدَى مِنْهُ وَهُوَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُتَصَدٍّ لِدَعْوَةِ بَعْضِ كُبَرَاءِ قُرَيْشٍ، طَامِعٍ فِي هِدَايَتِهِمْ، وَخَافَ أَنْ يَفُوتَهُ ذَلِكَ بِإِقْبَالِهِ عَلَى ذَلِكَ الْأَعْمَى الْفَقِيرِ، كَمَا هُوَ مُبَيَّنٌ فِي أَوَّلِ سُورَةِ (عَبَسَ وَتَوَلَّى) (٨٠: ١) وَالْمَرْوِيُّ أَنَّهَا نَزَلَتْ قَبْلَ " سُورَةِ الْأَنْعَامِ "، وَقَدِ اغْتَرَّ مَنْ زَعَمَ ذَلِكَ بِرِوَايَةٍ مُنْكَرَةٍ بَاطِلَةٍ، وَهِيَ مَا رَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ، وَغَيْرُهُمْ، عَنْ خَبَّابٍ قَالَ: جَاءَ الْأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ التَّمِيمِيُّ، وَعُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنٍ الْفَزَارِيُّ فَوُجِدَ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعَ صُهَيْبٍ وَبِلَالٍ وَعَمَّارٍ وَخَبَّابٍ قَاعِدًا فِي نَاسٍ مِنَ الضُّعَفَاءِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، فَلَمَّا رَأَوْهُمْ حَوْلَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَقَرُوهُمْ، فَأَتَوْهُ فَخَلَوْا بِهِ، وَقَالُوا: نُرِيدُ أَنْ تَجْعَلَ لَنَا مِنْكَ مَجْلِسًا تَعْرِفُ لَنَا بِهِ الْعَرَبُ فَضْلَنَا ; فَإِنَّ وُفُودَ الْعَرَبِ تَأْتِيكَ فَنَسْتَحْيِي أَنْ تَرَانَا الْعَرَبُ مَعَ هَذِهِ الْأَعْبُدِ، فَإِنْ نَحْنُ جِئْنَا فَأَقِمْهُمْ عَنَّا، فَإِذَا نَحْنُ فَرَغْنَا فَاقْعُدْ مَعَهُمْ إِنْ شِئْتَ. قَالَ: " نَعَمْ " قَالُوا: اكْتُبْ لَنَا عَلَيْكَ كِتَابًا، قَالَ: فَدَعَا بِصَحِيفَةٍ، وَدَعَا عَلِيًّا لِيَكْتُبَ وَنَحْنُ قُعُودٌ فِي نَاحِيَةٍ، فَنَزَلَ جِبْرِيلُ فَقَالَ: (وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ) الْآيَةَ، فَرَمَى رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الصَّحِيفَةَ ثُمَّ دَعَانَا فَأَتَيْنَاهُ. قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ بَعْدَ إِيرَادِهِ لِسَنَدِهِ عِنْدَ ابْنِ أَبِي حَاتِمٍ: وَرَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ حَدِيثِ أَسْبَاطٍ بِهِ، وَهَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ، فَإِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَكِّيَّةٌ، وَالْأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ وَعُيَيْنَةَ إِنَّمَا أَسْلَمَا بَعْدَ الْهِجْرَةِ بِدَهْرٍ. اهـ. وَأَقُولُ: إِنَّ هَذِهِ الرِّوَايَةَ بَاطِلَةٌ مِنْ وُجُوهٍ؛ مِنْهَا مَا ذَكَرَهُ الْحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ مِنْ تَأَخُّرِ إِسْلَامِ الْأَقْرَعِ وَعُيَيْنَةَ، وَظَاهِرُ مَا فِي الْإِصَابَةِ أَنَّ الْأَقْرَعَ بْنَ حَابِسٍ أَسْلَمَ قُبَيْلَ فَتْحِ مَكَّةَ، وَصَرَّحَ الْحَافِظُ

<<  <  ج: ص:  >  >>