للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

بِهَذِهِ الْآيَةِ مَا كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَتَنَاكَحُونَهُ فِي شِرْكِهِمْ. وَمَعْنَى إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِلَّا مَا قَدْ مَضَى إِلَى آخِرِ مَا قَالَ.

ثُمَّ بَيَّنَ لَنَا - سُبْحَانَهُ - أَنْوَاعَ الْمُحَرَّمَاتِ فِي النِّكَاحِ لِعِلَّةٍ ثَابِتَةٍ مَا فِي النِّكَاحِ مِنَ الْحِكْمَةِ فِي صِلَةِ الْبَشَرِ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ، أَوْ لِعِلَّةٍ عَارِضَةٍ كَذَلِكَ. وَهَذِهِ الْأَنْوَاعُ دَاخِلَةٌ فِي عِدَّةِ أَقْسَامٍ: الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: مَا يَحْرُمُ مِنْ جِهَةِ النَّسَبِ، وَهُوَ أَنْوَاعٌ:

النَّوْعُ الْأَوَّلُ: نِكَاحُ الْأُصُولِ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ أَيْ حَرَّمَ اللهُ - تَعَالَى - عَلَيْكُمْ أَنْ تَتَزَوَّجُوا أُمَّهَاتِكُمْ، فَإِسْنَادُ الْفِعْلِ إِلَى الْمَفْعُولِ مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّ اللهَ - تَعَالَى - هُوَ الْمُحَرِّمُ لِلْإِيجَازِ، وَالْمُرَادُ أَنَّهُ حَكَمَ الْآنَ بِتَحْرِيمِ ذَلِكَ وَمَنْعِهِ، فَهُوَ إِنْشَاءُ حُكْمٍ جَدِيدٍ. وَأُمَّهَاتُنَا هُنَّ اللَّوَاتِي لَهُنَّ صِفَةُ الْوِلَادَةِ مِنْ أُصُولِنَا - وَلَفْظُ الْأُمِّ يُطْلَقُ عَلَى الْأَصْلِ الَّذِي يُنْسَبُ إِلَيْهِ غَيْرُهُ كَأُمِّ الْكِتَابِ، وَأُمِّ الْقُرَى - فَيَدْخُلُ فِيهِنَّ الْجَدَّاتُ، وَكَذَلِكَ فَهِمَهُ جَمِيعُ الْعُلَمَاءِ، وَأَجْمَعُوا عَلَيْهِ.

النَّوْعُ الثَّانِي: نِكَاحُ الْفُرُوعِ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ - سُبْحَانَهُ -: وَبَنَاتُكُمْ وَهُنَّ اللَّوَاتِي وُلِدْنَ لَنَا مِنْ أَصْلَابِنَا، وَإِنْ شِئْتَ قُلْتَ مِنْ تَلْقِيحِنَا، أَوْ وُلِدْنَ لِأَوْلَادِنَا، أَوْ لِأَوْلَادِ أَوْلَادِنَا، وَإِنْ سَلَفُوا، فَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ كُلُّ مَنْ كُنَّا سَبَبًا فِي وِلَادَتِهِنَّ، وَأُصُولًا لَهُنَّ، وَهَلْ يُشْتَرَطُ أَنْ تَكُونَ وِلَادَةُ الْبِنْتِ بِعَقْدٍ شَرْعِيٍّ صَحِيحٍ؟ قَالَ الشَّافِعِيَّةُ: نَعَمْ، وَقَالَ غَيْرُهُمْ: لَا، فَيَحْرُمُ عَلَى الرَّجُلِ بِنْتُهُ مِنَ

الزِّنَا، وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ الْمُتَبَادِرُ فِي حَقِّ مَنْ عَلِمَ أَنَّهَا ابْنَتُهُ، وَإِنْ كَانَتْ لَا تَرِثُهُ إِلَّا إِذَا اسْتَلْحَقَهَا ; لِأَنَّ الْإِرْثَ حَقٌّ تَابِعٌ لِثُبُوتِ النَّسَبِ، وَإِنَّمَا يَثْبُتُ النَّسَبُ بِالْفِرَاشِ، أَوْ الِاسْتِلْحَاقِ، وَوَلَدُ الزِّنَا لَيْسَ وَلَدَ فِرَاشٍ فَلَا نَسَبَ لَهُ، وَلَا إِرْثَ مَا لَمْ يُسْتَلْحَقْ ; إِذْ لَا يُمْكِنُ إِثْبَاتُ نَسَبِهِ بِالْبَيِّنَةِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى اعْتِبَارِ الْحَقِيقَةِ فِي ذَلِكَ إِذَا عُرِفْتَ هُوَ إِجْمَاعُ الْأُمَّةِ عَلَى أَنَّ وَلَدَ الزَّانِيَةِ يَلْحَقُهَا، وَيَرِثُهَا لِلْعِلْمِ بِأَنَّهَا أُمُّهُ. وَلَمْ يُعْرَفْ عَنْ أَحَدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ أَنَّهُ أَبَاحَ أَنْ يَنْكِحَ الرَّجُلُ ابْنَتَهُ مِنَ الزِّنَا. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الرَّجُلِ اسْتِلْحَاقُ وَلَدِهِ مِنَ الزِّنَا مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّهُ وَلَدُهُ، بِأَنْ يَكُونَ زَنَى بِامْرَأَةٍ لَيْسَتْ بِذَاتِ فِرَاشٍ فِي طُهْرٍ لَمْ يُلَامِسْهَا فِيهِ رَجُلٌ قَطُّ، وَبَقِيَتْ مَحْبُوسَةً عَنِ الرِّجَالِ حَتَّى ظَهَرَ حَمْلُهَا. وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى حُرْمَةِ الْبِنْتِ مِنَ الزِّنَا حُرْمَةُ الْبِنْتِ مِنَ الرَّضَاعَةِ بَلْ تَحْرِيمُ بِنْتِ الزِّنَا أَوْلَى.

هَذَا، وَإِنَّ الْفُسَّاقَ لَا يُبَالُونَ أَيْنَ يَضَعُونَ نُطَفَهُمْ، وَلَا أَيْنَ يَضَعُونَ نَسْلَهُمْ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَزْنِي بِذَاتِ الْفِرَاشِ، فَيُضِيعُ وَلَدَهُ وَيُلْحِقُ بِصَاحِبِ الْفِرَاشِ مَنْ لَيْسَ مِنْ صُلْبِهِ، فَتَكُونُ لَهُ جَمِيعُ حُقُوقِ الْأَوْلَادِ عِنْدَهُ عَمَلًا بِالْقَاعِدَةِ الشَّرْعِيَّةِ الْمَعْقُولَةِ فِي بِنَاءِ الْأَحْكَامِ عَلَى الظَّاهِرِ، وَهِيَ " الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ "، وَمِنْهُمْ مَنْ يَفْسُقُ بِمَنْ لَا فِرَاشَ لَهَا، فَيَحْمِلُهَا عَلَى قَتْلِ حَمْلِهَا عِنْدَ وَضْعِهِ، أَوْ عَلَى إِلْقَائِهِ حَيْثُ يُرْجَى أَنْ يَلْتَقِطَهُ مَنْ يُرَبِّيهِ لِيَجْعَلَهُ خَادِمًا كَالرَّقِيقِ، أَوْ فِي بَيْتٍ مِنَ الْبُيُوتِ الَّتِي تُرَبَّى فِيهَا اللُّقَطَاءُ فِي بَعْضِ الْمُدُنِ ذَاتِ الْحَضَارَةِ الْعَصْرِيَّةِ، وَلَا يُبَالِي الْفَاسِقُ أَخَرَجَ وَلَدُهُ شَقِيًّا

<<  <  ج: ص:  >  >>