للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

فِسْقِ قَوْمِهِ عَنْ أَمْرِهِ الَّذِي يُبَلِّغُهُ عَنْ رَبِّهِ، وَمَعْنَى الْعِبَارَةِ: إِنَّنِي لَا أَمْلِكُ أَمْرَ أَحَدٍ أَحْمِلُهُ عَلَى طَاعَتِكَ إِلَّا أَمْرَ نَفْسِي وَأَمْرَ أَخِي، وَلَا أَثِقُ بِغَيْرِنَا أَنْ يُطِيعَكَ فِي الْيُسْرِ وَالْعُسْرِ، وَالْمَنْشَطِ وَالْمَكْرَهِ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يُوقِنُ بِثَبَاتِ يُوشَعَ وَكَالِبَ عَلَى مَا كَانَا عَلَيْهِ مِنَ الرَّغْبَةِ وَالتَّرْغِيبِ فِي الطَّاعَةِ إِذَا أَمَرَ اللهُ مُوسَى بِأَنْ يَدْخُلَ أَرْضَ الْجَبَّارِينَ، وَيَتَصَدَّى لِقِتَالِهِمْ هُوَ وَمَنْ يَتْبَعُهُ، فَإِنَّ الَّذِي يَجْرُؤُ عَلَى الْقِتَالِ مَعَ الْجَيْشِ الْكَثِيرِ، يَجُوزُ أَلَّا يَجْرُؤَ عَلَيْهِ مَعَ النَّفَرِ الْقَلِيلِ. وَأَمَّا ثِقَتُهُ بِأَخِيهِ فَلِعِلْمِهِ الْيَقِينِيِّ بِأَنَّ اللهَ تَعَالَى أَيَّدَهُ بِمِثْلِ مَا أَيَّدَهُ بِهِ، وَلَوْ لَمْ يَعْلَمْ هَذَا بِإِعْلَامِ اللهِ وَوَحْيِهِ، وَمَا يَجِدُهُ مِنَ الْوِجْدَانِ الضَّرُورِيِّ فِي نَفْسِهِ لَكَانَ بَلَاؤُهُ مَعَهُ فِي مُقَاوَمَةِ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ، ثُمَّ فِي سِيَاسَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ مَعَهُ، وَفِي حَالِ انْصِرَافِهِ لِمُنَاجَاةِ رَبِّهِ مَا يَكْفِي لِلثِّقَةِ التَّامَّةِ، فَلَفْظُ " أَخِي " مَعْطُوفٌ عَلَى " نَفْسِي " وَجَعَلَهُ بَعْضُهُمْ مَعْطُوفًا عَلَى الضَّمِيرِ فِي " إِنِّي " أَيْ وَأَخِي كَذَلِكَ لَا يَمْلِكُ إِلَّا نَفْسَهُ.

(فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ) الْفَرْقُ: الْفَلْقُ وَالْفَصْلُ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ أَوِ الْأَشْيَاءِ، وَمِنْهُ فَرْقُ الشَّعْرِ، وَيُطْلَقُ عَلَى الْقَضَاءِ وَفَصْلِ الْخُصُومَاتِ، وَذَلِكَ قِسْمَانِ حِسِّيٌّ وَمَعْنَوِيٌّ، وَمَعْنَى الْجُمْلَةِ هُنَا: فَافْصِلْ بَيْنَنَا - يَعْنِي نَفْسَهُ وَأَخَاهُ - وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ عَنِ الطَّاعَةِ، وَهُمْ جَمَاعَةُ بَنِي إِسْرَائِيلَ، بِقَضَاءٍ تَقْضِيهِ بَيْنَنَا، إِذْ صِرْنَا خَصْمًا لَهُمْ وَصَارُوا خَصْمًا لَنَا، وَقِيلَ مَعْنَاهَا: إِذَا أَخَذْتَهُمْ بِالْعِقَابِ عَلَى فُسُوقِهِمْ، فَلَا تُعَاقِبْنَا مَعَهُمْ فِي الدُّنْيَا، وَقِيلَ الْآخِرَةِ، وَالْأَوَّلُ هُوَ الْمُخْتَارُ الْمُوَافِقُ لِقَوْلِهِ: (قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ) أَيْ قَالَ اللهُ لِمُوسَى

مُجِيبًا لِدُعَائِهِ إِجَابَةً مُتَّصِلَةً بِهِ: فَإِنَّهَا - أَيِ الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ - مُحَرَّمَةٌ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ تَحْرِيمًا فِعْلِيًّا، لَا تَكْلِيفِيًّا شَرْعِيًّا، مُدَّةَ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ ; أَيْ يَسِيرُونَ فِي بَرِّيَّةٍ مِنَ الْأَرْضِ، تَائِهِينَ مُتَحَيِّرِينَ، لَا يَدْرُونَ أَيْنَ يَنْتَهُونَ فِي سَيْرِهِمْ، فَالتِّيهُ: الْحَيْرَةُ، يُقَالُ: تَاهَ يَتِيهُ، وَيَتُوهُ لُغَةٌ، وَيُقَالُ: مَفَازَةٌ تَيْهَاءُ: إِذَا كَانَ سَالِكُوهَا يَتَحَيَّرُونَ فِيهَا لِعَدَمِ الْأَعْلَامِ الَّتِي يُهْتَدَى بِهَا. وَالتَّحْرِيمُ: الْمَنْعُ. (فَلَا تَأَسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ) أَيْ فَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ لِأَنَّهُمْ فَاسِقُونَ مُسْتَحِقُّونَ لِهَذَا التَّأْدِيبِ الْإِلَهِيِّ، وَسَنُبَيِّنُ هَذَا وَحِكْمَةَ اللهِ تَعَالَى فِيهِ. وَقَالَ الرَّاغِبُ: الْأَسَى: الْحُزْنُ، وَحَقِيقَتُهُ إِتْبَاعُ الْفَائِتِ الْغَمَّ، يُقَالُ: أَسِيتُ عَلَيْهِ أَسًى، وَأَسِيتُ لَهُ.

ذَكَرْنَا قَبْلُ أَنَّ هَذِهِ الْقِصَّةَ مُفَصَّلَةٌ فِي الْفَصْلَيْنِ الثَّالِثَ عَشَرَ وَالرَّابِعَ عَشَرَ مِنْ سِفْرِ الْعَدَدِ، وَذَكَرْنَا شَيْئًا مِنْهُمَا، وَفِي الْفَصْلِ الرَّابِعَ عَشَرَ أَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَمَّا تَمَرَّدُوا وَعَصَوْا أَمْرَ رَبِّهِمْ سَقَطَ مُوسَى وَهَارُونُ عَلَى وُجُوهِهِمَا أَمَامَهُمْ، وَأَنَّ يُوشَعَ وَكَالَبَ مَزَّقَا ثِيَابَهُمَا وَنَهَيَا الشَّعْبَ عَنِ التَّمَرُّدِ، وَعَنِ الْخَوْفِ مِنَ الْجَبَّارِينَ لِيُطِيعَ، فَهَمَّ الشَّعْبُ بِرَجْمِهِمَا، وَظَهَرَ مَجْدُ الرَّبِّ لِمُوسَى فِي خَيْمَةِ الِاجْتِمَاعِ (١١ وَقَالَ الرَّبُّ لِمُوسَى: حَتَّى مَتَى يُهِينُنِي هَذَا الشَّعْبُ؟

<<  <  ج: ص:  >  >>