نَفْسَهُ وَنَاقَشَهَا تَجَلَّى لَهُ كُلَّ آنٍ مِنْ تَقْصِيرِهَا مَا يَحْمِلُهُ عَلَى التَّشْمِيرِ لِتَدَارُكِ مَا فَاتَ، وَالِاسْتِعْدَادِ لِمَا هُوَ آتٍ، فَمَنْ تَرَاهُ مُشَمِّرًا فَاعْلَمْ أَنَّهُ عَالِمٌ، وَمَنْ تَرَاهُ مُقَصِّرًا فَاعْلَمْ بِأَنَّهُ مَغْرُورٌ آثِمٌ.
(مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) .
الْقِتَالُ لِلدِّفَاعِ عَنِ الْحَقِّ أَوْ لِحِمَايَةِ الْحَقِيقَةِ يَتَوَقَّفُ عَلَى بَذْلِ الْمَالِ لِتَجْهِيزِ الْمُقَاتَلَةِ وَلِغَيْرِ ذَلِكَ، لَا فَصْلَ فِي الْحَاجَةِ إِلَى هَذَا بَيْنَ الْبَدْوِ وَالْحَضَرِ، فَإِذَا كَانَتْ مُقَاتَلَةُ الْقَبَائِلِ الْبَدَوِيَّةِ لَا تُكَلِّفُ رَئِيسَهَا أَنْ يَتَوَلَّى تَجْهِيزَهَا بَلْ يُجَهِّزُ كُلُّ وَاحِدٍ نَفْسَهُ، فَكُلُّ وَاحِدٍ مُطَالَبٌ بِبَذْلِ الْمَالِ لِتَجْهِيزِ نَفْسِهِ، وَإِعَانَةِ مَنْ يَعْجَزُ عَنْ ذَلِكَ مِنْ فُقَرَاءِ قَوْمِهِ، وَأَمَّا دُوَلُ الْحَضَارَةِ فَهِيَ تَحْتَاجُ فِي الِاسْتِعْدَادِ لِلْمُدَافَعَةِ وَالْمُهَاجَمَةِ مَا لَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ أَهْلُ الْبَادِيَةِ، وَقَدْ كَثُرَتْ نَفَقَاتُ الدُّوَلِ الْحَرْبِيَّةِ الْيَوْمَ بِارْتِقَاءِ الْفُنُونِ الْعَسْكَرِيَّةِ، وَتَوَقُّفِ الْحَرْبِ عَلَى عُلُومٍ وَفُنُونٍ وَصِنَاعَاتٍ كَثِيرَةٍ مَنْ قَصَّرَ فِيهَا كَانَ عُرْضَةً لِسُقُوطِ دَوْلَتِهِ; لِهَذَا قَرَنَ اللهُ تَعَالَى الْأَمْرَ بِالْقِتَالِ، بِالْحَثِّ عَلَى بَذْلِ الْمَالِ، فَالْمُرَادُ بِالْبَذْلِ هُنَا مَا يُعِينُ عَلَى الْقِتَالِ، وَمَا هُوَ بِمَعْنَاهُ مِنْ كُلِّ مَا يُعْلِي شَأْنَ الدِّينِ، وَيَصُونُ الْأُمَّةَ وَيَمْنَعُهَا مِنْ عُدْوَانِ الْعَادِينَ، وَيَرْفَعُ مَكَانَتَهَا فِي الْعَالَمِينَ.
وَقَدْ ذُكِرَ حُكْمُ هَذَا الْإِنْفَاقِ فِي سَبِيلِ اللهِ بِعِبَارَةٍ تَسْتَفِزُّ النُّفُوسَ، وَأُسْلُوبٍ يَحْفِزُ
الْهِمَمَ، وَيَبْسُطُ الْأَكُفَّ بِالْكَرَمِ، فَقَالَ: (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضًا حَسَنًا) فَهَذِهِ الْعِبَارَةُ أَبْلَغُ مِنَ الْأَمْرِ الْمُجَرَّدِ، وَمِنَ الْأَمْرِ الْمَقْرُونِ بِبَيَانِ الْحِكْمَةِ، وَالتَّنْبِيهِ إِلَى الْفَائِدَةِ، وَالْوَجْهُ فِي اخْتِيَارِ هَذَا الْأُسْلُوبِ هُنَا عَلَى مَا قَرَّرَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ أَنَّ الدَّاعِيَةَ إِلَى الْبَذْلِ فِي الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ ضَعِيفَةٌ فِي نُفُوسِ الْأَكْثَرِينَ، وَالرَّغْبَةُ فِيهِ قَلِيلَةٌ; إِذْ لَيْسَ فِيهِ مِنَ اللَّذَّةِ وَالْأَرْيَحِيَّةِ مَا فِي الْبَذْلِ لِلْأَفْرَادِ، فَاحْتِيجَ فِيهِ لِلْمُبَالَغَةِ فِي التَّأْثِيرِ.
يَدْفَعُ الْغَنِيُّ إِلَى بَذْلِ شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ مَالِهِ لِأَفْرَادٍ مِمَّنْ يَعِيشُ مَعَهُمْ أُمُورٌ كَثِيرَةٌ: مِنْهَا إِزَالَةُ أَلَمِ النَّفْسِ بِرُؤْيَةِ الْمَعُوزِينَ وَالْبَائِسِينَ، وَمِنْهَا اتِّقَاءُ حَسَدِ الْفُقَرَاءِ وَاكْتِفَاءُ شَرِّ شِرَارِهِمْ، وَالْأَمْنُ مِنِ اعْتِدَائِهِمْ، وَمِنْهَا التَّلَذُّذُ بِرُؤْيَةِ يَدِهِ الْعُلْيَا، وَبِمَا يَتَوَقَّعُهُ مِنِ ارْتِفَاعِ الْمَكَانَةِ فِي النُّفُوسِ، وَتَعْظِيمِ مَنْ يَبْذُلُ لَهُمْ وَشُكْرِهِمْ وَحُبِّهِمْ; فَإِنَّ السَّخِيَّ مُحَبَّبٌ إِلَى جَمِيعِ النَّاسِ مَنْ يَنْتَفِعُ مِنْهُمْ بِسَخَائِهِ وَمَنْ لَا يَنْتَفِعُ، وَإِذَا كَانَ الْبَذْلُ إِلَى ذَوِي الْقُرْبَى أَوِ الْجِيرَانِ فَحَظُّ النَّفْسِ فِيهِ أَجْلَى، وَشِفَاءُ أَلَمِ النَّفْسِ بِهِ أَقْوَى، فَإِنَّ أَلَمَ جَارِكَ وَقَرِيبِكَ أَلَمٌ لَكَ، وَيَتَعَذَّرُ عَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يَكُونَ نَاعِمًا
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute