للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

بَيْنَ أَهْلِ الْبُؤْسِ وَالضَّرَّاءِ، سَعِيدًا بَيْنَ الْأَشْقِيَاءِ، فَكُلُّ هَذِهِ حُظُوظٌ لِلنَّفْسِ فِي الْبَذْلِ لِلْأَفْرَادِ تُسَهِّلُ عَلَيْهَا امْتِثَالَ أَمْرِ اللهِ فِيهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُؤَكَّدًا. وَقَدْ يَكُونُ فِيهَا مِنَ الرِّيَاءِ وَحُبِّ السُّمْعَةِ مَا يُنَافِي كَوْنَهَا قُرْبَةً وَتَعَبُّدًا.

وَأَمَّا الْبَذْلُ الَّذِي يُرَادُ هُنَا - وَهُوَ الْبَذْلُ لِلدِّفَاعِ عَنِ الدِّينِ وَإِعْلَاءِ كَلِمَتِهِ وَحِفْظِ حُقُوقِ أَهْلِهِ - فَلَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ تِلْكَ الْحُظُوظِ الَّتِي تُسَهِّلُ عَلَى النَّفْسِ مُفَارَقَةَ مَحْبُوبِهَا (الْمَالِ) إِلَّا إِذَا كَانَ تَبَرُّعًا جَهْرِيًّا يَتَوَلَّى جَمْعَهُ بَعْضُ الْحُكَّامِ وَالْأُمَرَاءِ أَوْ يُجْمَعُ بِأَمْرِ الْمُلُوكِ وَالسَّلَاطِينِ; وَلِذَلِكَ يَقِلُّ فِي النَّاسِ مَنْ يَبْذُلُ الْمَالَ فِي الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ لِوَجْهِ اللهِ تَعَالَى، فَلِهَذَا كَانَ الْمَقَامُ يَقْتَضِي مَزِيدَ التَّأْكِيدِ وَالْمُبَالَغَةِ فِي التَّرْغِيبِ، وَلَيْسَ فِي الْكَلَامِ مَا يُدْرِكُ شَأْوَ هَذِهِ الْآيَةِ فِي تَأْثِيرِهَا، وَلَا سِيَّمَا مَوْقِعُهَا هَذَا بَعْدَ بَيَانِ سُنَّةِ اللهِ تَعَالَى فِي مَوْتِ الْأُمَمِ وَحَيَاتِهَا.

حَسْبُكَ أَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَ هَذَا الْبَذْلَ بِمَثَابَةِ الْإِقْرَاضِ لَهُ، وَهُوَ الْغَنِيُّ عَنِ الْعَالَمِينَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا، وَإِنَّمَا يَقْتَرِضُ الْمُحْتَاجُ، وَأَنَّهُ عَبَّرَ عَنْ

طَلَبِهِ بِهَذَا الضَّرْبِ مِنَ الِاسْتِفْهَامِ، الْمُسْتَعْمَلِ لِلْإِكْبَارِ وَالِاسْتِعْظَامِ، فَإِنَّهُ إِنَّمَا يُقَالُ مَنْ ذَا الَّذِي يَفْعَلُ كَذَا؟ فِي الْأَمْرِ الَّذِي يَنْدُرُ أَنْ يُقْدِمَ عَلَيْهِ أَحَدٌ. يُقَالُ مَنْ ذَا يَتَطَاوَلُ إِلَى الْمَلِكِ فُلَانٍ؟ أَوْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْمَلُ هَذَا الْعَمَلَ وَلَهُ كَذَا؟ إِذَا كَانَ عَظِيمًا أَوْ شَاقًّا يَقِلُّ مَنْ يَتَصَدَّى لَهُ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: (مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ) (٢: ٢٥٥) وَقَالَ: (قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللهِ) (٣٣: ١٧) ؟ الْآيَةَ، وَلَا يُقَالُ: مَنْ ذَا الَّذِي يَشْرَبُ هَذِهِ الْكَأْسَ الْمَثْلُوجَةَ؟ - وَهَجِيرُ الصَّيْفِ مُتَّقِدٌ، وَالسَّمُومُ تَلْفَحُ الْوُجُوهَ - وَأَنَّهُ لَمْ يَكْتَفِ بِتَسْمِيَتِهِ إِقْرَاضًا وَبِالتَّعْبِيرِ عَنْهُ بِهَذَا الِاسْتِفْهَامِ حَتَّى قَالَ: (فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً) ذَلِكَ أَنَّ الْإِقْرَاضَ هُوَ أَنْ تُعْطِيَ إِنْسَانًا شَيْئًا مِنَ الْمَالِ عَلَى أَنْ يَرُدَّ إِلَيْكَ مِثْلَهُ، فَالتَّعْبِيرُ بِالْإِقْرَاضِ يَقْتَضِي أَنَّ الْقَرْضَ لَا يَضِيعُ، وَلَيْسَ هَذَا بِكَافٍ فِي التَّرْغِيبِ الَّذِي تَقْتَضِيهِ الْحَالُ هُنَا، فَصَرَّحَ بِأَنَّهُ لَا يَرُدُّ مِثْلَهُ، بَلْ أَضْعَافَ أَضْعَافِهِ مِنْ غَيْرِ تَحْدِيدٍ، وَقَدْ قَالَ فِي مَقَامٍ آخَرَ: (وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ) (٣٤: ٣٩) وَهُوَ كَافٍ هُنَاكَ لِمَا عَلِمْتَ مِنَ الْفَصْلِ بَيْنَ الْمَقَامَيْنِ، وَالتَّفَاوُتِ بَيْنَ النَّاسِ فِي الْحَالَيْنِ، وَإِنَّكَ لِتَجِدُ النَّاسَ عَلَى هَذَا التَّأْكِيدِ فِي التَّرْغِيبِ قَلَّمَا يَجُودُونَ بِأَمْوَالِهِمْ فِي الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ (وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ) (٣٤: ١٣) .

قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: مَعْلُومٌ أَنَّ اللهَ تَعَالَى غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ فَلَا يَحْتَاجُ إِلَى شَيْءٍ لِذَاتِهِ، وَلَا هُوَ عَائِلٌ لِجَمَاعَةٍ مُعَيَّنِينَ فَيَقْتَرِضُ لَهُمْ، فَلَا بُدَّ لِهَذَا التَّعْبِيرِ بِالْإِقْرَاضِ مِنْ وَجْهٍ صَحِيحٍ - أَيْ غَيْرِ

<<  <  ج: ص:  >  >>