للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

كَأَنَّهُ قَالَ: لَا تَتَّبِعُوا وَحْيَ الْبَاطِلِ وَالشَّرِّ وَخَوَاطِرَهَمَا تُلِمُّ بِكُمْ وَتَطُوفُ بِنُفُوسِكُمْ، فَإِنَّهُمَا مِنْ إِغْوَاءِ الشَّيْطَانِ عَدُوِّكُمْ، ثُمَّ بَيَّنَ ذَلِكَ بِمَا يُفِيدُ إِثْبَاتَ الْعَدَاوَةِ مِنْ تَعْلِيلِ النَّهْيِ فَقَالَ:

(إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ) دُونَ غَيْرِهِمَا مِنَ الْحَقِّ وَالْخَيْرِ، فَأَمَّا السُّوءُ فَهُوَ كُلُّ مَا يَسُوءُكَ وُقُوعُهُ أَوْ عَاقِبَتُهُ، فَمِنَ الشُّرُورِ مَا يَقْدُمُ عَلَيْهِ الْمَرْءُ مُنْدَفِعًا بِتَزْيِينِ الشَّيْطَانِ لَهُ، حَتَّى إِذَا فَعَلَ الشَّرَّ فَاجَأَهُ السُّوءُ وَعَاجَلَهُ الضَّرَرُ، وَمِنَ الْأَعْمَالِ مَا لَا يَظْهَرُ السُّوءُ فِي بِدَايَتِهِ، وَلَكِنَّهُ يَتَّصِلُ بِنِهَايَتِهِ، كَمَنْ يَصُدُّهُ عَنْ طَلَبِ الْعِلْمِ أَنَّ بَعْضَ الْمُتَعَلِّمِينَ أَضَاعَ وَقْتَهُ وَبَذَلَ كَثِيرًا مِنْ مَالِهِ ثُمَّ لَمْ يَسْتَفِدْ مِنَ التَّعْلِيمِ شَيْئًا، فَهَذَا قِيَاسٌ شَيْطَانِيٌّ يَصْرِفُ بَعْضَ النَّاسِ عَنْ طَلَبِ الْعِلْمِ بِأَنْفُسِهِمْ، وَبَعْضَ الْآبَاءِ عَنْ تَعْلِيمِ أَوْلَادِهِمْ، فَتَكُونُ عَاقِبَتُهُمُ السَّوْءَى ذَاتِ نَاحِيَتَيْنِ: سَلْبِيَّةٌ وَهِيَ الْحِرْمَانُ مِنْ فَوَائِدِ الْعِلْمِ، وَإِيجَابِيَّةٌ وَهِيَ مَصَائِبُ الْجَهْلِ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا دِينِيٌّ وَدُنْيَوِيٌّ، فَلَا بُدَّ مِنَ الْبَصِيرَةِ

وَالتَّأَمُّلِ فِي تَمْيِيزِ بَعْضِ الْخَوَاطِرِ مِنْ بَعْضٍ، فَإِنَّ الشَّيْطَانِيَّةَ مِنْهَا رُبَّمَا لَا تَظْهَرُ بَادِيَ الرَّأْيِ، وَأَمَّا الْفَحْشَاءُ فَكُلُّ مَا يَفْحُشُ قُبْحُهُ فِي أَعْيُنِ النَّاسِ مِنَ الْمَعَاصِي وَالْآثَامِ، وَلَا يَخْتَصُّ بِنَحْوِ الزِّنَا كَمَا قَالَ بَعْضُهُمْ: وَالْفَحْشَاءُ فِي الْغَالِبِ أَقْبَحُ وَأَشَدُّ مِنَ السُّوءِ، وَأَسْوَأُ السُّوءِ - مَبْدَأً وَعَاقِبَةً - تَرْكُ الْأَسْبَابِ الطَّبِيعِيَّةِ الَّتِي قَضَتْ حِكْمَةُ الْبَارِي بِرَبْطِ الْمُسَبَّبَاتِ بِهَا اعْتِمَادًا عَلَى أَشْخَاصٍ مِنَ الْمَوْتَى أَوِ الْأَحْيَاءِ يَظُنُّ بَلْ يَتَوَهَّمُ أَنَّ لَهُمْ نَصِيبًا مِنَ السُّلْطَةِ الْغَيْبِيَّةِ وَالتَّصَرُّفِ فِي الْأَكْوَانِ بِدُونِ اتِّخَاذِ الْأَسْبَابِ، وَمِثْلُهُ اتِّخَاذُ رُؤَسَاءَ فِي الدِّينِ يُؤْخَذُ بِقَوْلِهِمْ وَيُعْتَمَدُ عَلَى فِعْلِهِمْ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ بَيَانًا وَتَبْلِيغًا لِمَا جَاءَ عَنِ اللهِ وَرَسُولِهِ، فَإِنَّ فِي هَذَيْنِ النَّوْعَيْنِ مِنَ السُّوءِ إِهْمَالًا لِنِعْمَةِ الْعَقْلِ وَكُفْرًا بِالْمُنْعِمِ بِهَا، وَإِعْرَاضًا عَنْ سُنَنِ اللهِ تَعَالَى وَجَهْلًا بِاطِّرَادِهَا، وَصَاحِبُهُ كَمَنْ يَطْلُبُ مِنَ السَّرَابِ الْمَاءَ، أَوْ يَنْعَقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ غَيْرَ الدُّعَاءِ وَالنِّدَاءِ، وَهَذَا شَأْنُ مُتَّخِذِي الْأَنْدَادِ (وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ) (١٣: ٣٣) وَأَمَّا الرُّؤَسَاءُ الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَامَّةَ عَلَى هَذَا التَّقْلِيدِ فِي الْأَمْرَيْنِ فَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى اتِّبَاعَهُمْ لِوَحْيِ الشَّيْطَانِ بِقَوْلِهِ: (وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ) أَيْ: وَيَأْمُرُكُمْ أَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ فِي دِينِهِ الَّذِي دَانَ بِهِ عِبَادَهُ مَا لَا تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ أَنَّ اللهَ شَرَعَهُ لَهُمْ مِنْ عَقَائِدَ وَأَوْرَادَ وَأَعْمَالٍ تَعَبُّدِيَّةٍ وَشَعَائِرَ دِينِيَّةٍ، أَوْ تَحْلِيلِ مَا الْأَصْلُ فِيهِ التَّحْرِيمُ، وَتَحْرِيمِ مَا الْأَصْلُ فِيهِ الْإِبَاحَةُ، وَلَا يَثْبُتُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ بِالرَّأْيِ وَالِاجْتِهَادِ مِنْ قِيَاسٍ وَاسْتِحْسَانٍ ; لِأَنَّهُمَا ظَنٌّ لَا عِلْمٌ، فَالْقَوْلُ عَلَى اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ اعْتِدَاءٌ عَلَى حَقِّ الرُّبُوبِيَّةِ بِالتَّشْرِيعِ، وَهُوَ شِرْكٌ صَرِيحٌ، وَهَذَا أَقْبَحُ مَا يَأْمُرُ بِهِ الشَّيْطَانُ، فَإِنَّهُ الْأَصْلُ فِي إِفْسَادِ الْعَقَائِدِ وَتَحْرِيفِ الشَّرَائِعِ، وَاسْتِبْدَالِ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ.

أَلَيْسَ مِنَ الْقَوْلِ عَلَى اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ زَعْمُ هَؤُلَاءِ الرُّؤَسَاءِ أَنَّ لِلَّهِ وُسَطَاءَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ خَلْقِهِ لَا يَفْعَلُ سُبْحَانَهُ شَيْئًا بِدُونِ وَسَاطَتِهِمْ، فَحَوَّلُوا بِذَلِكَ قُلُوبَ عِبَادِهِ عَنْهُ وَعَنْ سُنَّتِهِ فِي خَلْقِهِ، وَوَجَّهُوهَا إِلَى قُبُورٍ لَا تُعَدُ وَلَا تُحْصَى، وَإِلَى عَبِيدٍ ضُعَفَاءَ لَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا،

<<  <  ج: ص:  >  >>