للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

مِنْ مَكَانٍ إِلَى مَكَانٍ، وَقُصَارَى الْأَمْرِ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يُطِيعُهُ فِيمَا أَمَرَ بِهِ مِنَ السُّجُودِ لَهُ، وَمِنَ امْتِحَانِ الرَّبِّ إِلَهِهِ (أَيْ إِلَهِ الْمَسِيحِ) وَقَوْلُهُ: (لَا تُجَرِّبِ الرَّبَّ إِلَهَكَ) يُرَادُ بِهِ مَا وَرَدَ فِي سِفْرِ التَّثْنِيَةِ آخِرِ أَسْفَارِ التَّوْرَاةِ (٦: ١٦) وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ: (لَيْسَ بِالْخُبْزِ وَحْدَهُ يَحْيَا الْإِنْسَانُ) وَقَوْلُهُ: (لِلرَّبِ إِلَهَكَ تَسْجُدُ) إِلَخْ. وَذَلِكَ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ مُتَّبِعًا لِلتَّوْرَاةِ.

هَذَا وَقَدْ تَقَدَّمَ تَحْقِيقُ الْقَوْلِ فِي الشَّيْطَانِ وَوَسْوَسَتِهِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَالْمُحَقَّقُ عِنْدَنَا أَنَّهُ لَيْسَ لِلشَّيْطَانِ سُلْطَانٌ عَلَى عِبَادِ اللهِ الْمُخْلَصِينَ، وَخَيْرُهُمُ الْأَنْبِيَاءُ

وَالْمُرْسَلُونَ، وَأَمَّا مَا وَرَدَ فِي حَدِيثِ مَرْيَمَ وَعِيسَى مِنْ أَنَّ الشَّيْطَانَ لَمْ يَمْسَسْهُمَا وَحَدِيثِ إِسْلَامِ شَيْطَانِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَحَدِيثِ إِزَالَةِ حَظِّ الشَّيْطَانِ مِنْ قَلْبِهِ فَهُوَ مِنَ الْأَخْبَارِ الظَّنِّيَّةِ لِأَنَّهُ مِنْ رِوَايَةِ الْآحَادِ. وَلَمَّا كَانَ مَوْضُوعُهَا عَالَمَ الْغَيْبِ، وَالْإِيمَانُ بِالْغَيْبِ مِنْ قِسْمِ الْعَقَائِدِ، وَهِيَ لَا يُؤْخَذُ فِيهَا بِالظَّنِّ لِقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا [٥٣: ٢٨] كُنَّا غَيْرَ مُكَلَّفِينَ الْإِيمَانَ بِمَضْمُونِ تِلْكَ الْأَحَادِيثِ فِي عَقَائِدِنَا. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يُؤْخَذُ فِيهَا بِأَحَادِيثِ الْآحَادِ لِمَنْ صَحَّتْ عِنْدَهُ، وَمَذْهَبُ السَّلَفِ فِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ تَفْوِيضُ الْعِلْمِ بِكَيْفِيَّتِهَا إِلَى اللهِ - تَعَالَى - فَلَا نَتَكَلَّمُ فِي كَيْفِيَّةِ مَسِّ الشَّيْطَانِ وَلَا فِي كَيْفِيَّةِ إِخْرَاجِ حَظِّهِ مِنَ الْقَلْبِ، وَإِنَّمَا نَقُولُ: إِنَّ مَا قَالَهُ الرَّسُولُ حَقٌّ وَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى مَزِيَّةٍ لِمَرْيَمَ وَابْنِهَا وَلِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يُشَارِكُهُمْ فِيهَا سِوَاهُمْ مِنْ عِبَادِ اللهِ الَّذِينَ لَيْسَ لِلشَّيْطَانِ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ، وَهَذِهِ الْمَزِيَّةُ لَا تَقْتَضِي وَحْدَهَا أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَفْضَلَ مِنْ سَائِرِ عِبَادِ اللهِ الْمُخْلَصِينَ ; إِذْ قَدْ يُوجَدُ فِي الْمَفْضُولِ مِنَ الْمَزَايَا مَا لَا يُوجَدُ فِي الْفَاضِلِ، فَلَيْسَتْ مَرْيَمُ أَفْضَلَ مِنْ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى - عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - ; لِأَنَّ اخْتِصَاصَ اللهِ إِيَّاهُمَا بِالنُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ وَالْخِلَّةِ وَالتَّكْلِيمِ يَعْلُو كَوْنَ الشَّيْطَانِ لَمْ يَمَسَّهُمَا عِنْدَ الْوِلَادَةِ ; عَلَى أَنَّ الْحَدِيثَ وَرَدَ فِي تَفْسِيرِ كَوْنِهِ - تَعَالَى - تَقَبَّلَ مِنْ أُمِّهَا إِعَاذَتَهَا وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ، وَهَذِهِ الْإِعَاذَةُ قَدْ كَانَتْ بَعْدَ وِلَادَتِهَا وَالْعِلْمِ بِأَنَّهَا أُنْثَى، وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ أَنَّ الْمَسَّ يَكُونُ عِنْدَ الْوَضْعِ، وَاللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ بِمُرَادِهِمَا.

فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ أَيْ تَقَبَّلَ مَرْيَمَ مِنْ أُمِّهَا وَرَضِيَ أَنْ تَكُونَ مُحَرَّرَةً لِلِانْقِطَاعِ لِعِبَادَتِهِ وَخِدْمَةِ بَيْتِهِ وَهُوَ أَبْلَغُ مِنْ (قَبْلِهَا) وَزَادَهُ مُبَالَغَةً وَتَأْكِيدًا وَصْفُهُ بِالْحُسْنِ كَأَنَّهُ قَالَ: فَقَبِلَهَا رَبُّهَا أَبْلَغَ قَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا أَيْ رَبَّاهَا وَنَمَّاهَا فِي خَيْرِهِ وَرِزْقِهِ وَعِنَايَتِهِ وَتَوْفِيقِهِ تَرْبِيَةً حَسَنَةً شَامِلَةً لِلرُّوحِ وَالْجَسَدِ كَمَا تُرَبَّى الشَّجَرَةُ فِي الْأَرْضِ الصَّالِحَةِ حَتَّى تَنْمُوَ وَتُثْمِرَ الثَّمَرَةَ الصَّالِحَةَ لَا يُفْسِدُ طَبِيعَتَهَا شَيْءٌ ; وَلَعَلَّهُ عَبَّرَ عَنِ التَّرْبِيَةِ بِالْإِنْبَاتِ لِبَيَانِ أَنَّ التَّرْبِيَةَ فِطْرِيَّةٌ لَا شَائِبَةَ فِيهَا، وَمِنْ مَبَاحِثِ اللَّفْظِ أَنَّ الْقَبُولَ مَصْدَرُ " قَبِلَ " لَا " تَقَبَّلَ " وَالنَّبَاتُ مَصْدَرٌ لِـ " نَبَتَ " لَا لِـ " أَنْبَتَ " وَلَكِنَّ الْعَرَبَ تُخْرِجُ الْمَصْدَرَ أَحْيَانًا عَلَى غَيْرِ صِيغَةِ الْفِعْلِ، وَالشَّوَاهِدُ

<<  <  ج: ص:  >  >>