وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ (٨: ٥٨) يَعْنِي أَنَّهُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ إِنَّمَا عَمِلَ فِي نَبْذِ عُهُودِهِمْ بِآيَةِ الْأَنْفَالِ الَّتِي تَقَدَّمَتْ، وَلَيْسَ تَشْرِيعًا جَدِيدًا لِنَبْذِ عُهُودِ الْمُشْرِكِينَ مُطْلَقًا.
وَقَالَ الْحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِهَا: اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ هَاهُنَا اخْتِلَافًا كَثِيرًا، فَقَالَ قَائِلُونَ: هَذِهِ الْآيَةُ لِذَوِي الْعُهُودِ الْمُطْلَقَةِ غَيْرِ الْمُؤَقَّتَةِ، أَوْ مَنْ لَهُ عَهْدٌ دُونَ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَيُكْمِلُ لَهُ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ، فَأَمَّا مَنْ كَانَ لَهُ عَهْدٌ مُؤَقَّتٌ فَأَجَلُهُ إِلَى مُدَّتِهِ مَهْمَا كَانَ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ (٩: ٤) وَلِمَا سَيَأْتِي فِي الْحَدِيثِ " وَمَنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ عَهْدٌ فَعَهْدُهُ إِلَى مُدَّتِهِ " وَهَذَا أَحْسَنُ الْأَقْوَالِ وَأَقْوَاهَا، وَقَدِ اخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ رَحِمَهُ اللهُ، وَرُوِيَ عَنِ الْكَلْبِيِّ، وَمُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ وَغَيْرِ وَاحِدٍ. اهـ.
فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ خِطَابٌ لِلْمُؤْمِنِينَ مُرَتَّبٌ عَلَى الْبَرَاءَةِ، مُبَيِّنٌ لِمَا يَجِبُ أَنْ يَقُولُوهُ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ بَرِئَ اللهُ وَرَسُولُهُ مِنْ عُهُودِهِمْ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ خِطَابًا لِلْمُشْرِكِينَ أَنْفُسِهِمْ بِطَرِيقِ الِالْتِفَاتِ، وَالسِّيَاحَةُ فِي الْأَرْضِ الِانْتِقَالُ وَالتَّجْوَالُ الْوَاسِعُ فِيهَا، وَرَجُلٌ سَائِحٌ وَسَيَّاحٌ، وَهُوَ مَجَازٌ مَنْ سَاحَ الْمَاءُ سَيْحًا، وَسَيَّحَ النَّاسُ نَهْرًا. وَالْمُرَادُ مِنَ الْأَمْرِ بِالسِّيَاحَةِ حُرِّيَّةُ السَّيْرِ وَالِانْتِقَالِ مَعَ الْأَمَانِ
مُدَّةَ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ لَا يَعْرِضُ الْمُسْلِمُونَ لَهُمْ فِيهَا بِقِتَالٍ، فَلَهُمْ فِيهَا سَعَةٌ مِنَ الْوَقْتِ لِلنَّظَرِ فِي أَمْرِهِمْ، وَالتَّفَكُّرِ فِي عَاقِبَتِهِمْ، وَالتَّخْيِيرِ بَيْنَ الْإِسْلَامِ، وَبَيْنَ الِاسْتِعْدَادِ لِلْمُقَاوَمَةِ وَالصِّدَامِ إِذَا هُمْ أَصَرُّوا عَلَى شِرْكِهِمْ وَعُدْوَانِهِمْ، وَهَذَا مِنْ غَرَائِبِ رَحْمَةِ هَذَا الدِّينِ، وَإِعْذَارِهِ إِلَى أَعْدَى أَعْدَائِهِ الْمُحَارِبِينَ، وَلَوْلَاهُ لَأَمْكَنَ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ أَخَذَهُمْ عَلَى غِرَّةٍ، وَدَانَهُمْ بِمَا كَانُوا يُدِينُونَهُ عِنْدَ الْقُدْرَةِ، فَإِنْ كَانَ هَذَا مِنَ الْعَدْلِ، فَأَيْنَ مَا امْتَازَ بِهِ مِنَ الْفَضْلِ؟ .
وَهَذِهِ الْأَرْبَعَةُ الْأَشْهَرِ تَبْتَدِئُ مَنْ عَاشَرِ ذِي الْحِجَّةِ مِنْ سَنَةِ تِسْعٍ، وَهُوَ عِيدُ النَّحْرِ الَّذِي بُلِّغُوا فِيهِ هَذِهِ الدَّعْوَةَ كَمَا يَأْتِي، وَتَنْتَهِي فِي عَاشِرِ رَبِيعِ الْآخَرِ مِنْ سَنَةِ عَشْرٍ. وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: إِنَّهَا الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ "؛ لِأَنَّ الْبَرَاءَةَ نَزَلَتْ فِي أَوَّلِ شَوَّالٍ سَنَةَ تِسْعٍ، وَتَنْتَهِي بِانْتِهَاءِ الْمُحَرَّمِ أَوَّلَ السَّنَةِ الْعَاشِرَةِ. وَهُوَ غَلَطٌ يَقْتَضِي أَنْ تَكُونَ مُدَّةَ الْأَرْبَعَةِ الْأَشْهُرِ بَعْدَ التَّبْلِيغِ شَهْرَيْنِ لِمَا سَيَأْتِي مِنْ كَوْنِ تَبْلِيغِهِمُ الْبَرَاءَةَ كَانَ يَوْمَ النَّحْرِ فِي مِنًى، وَلَا يُعْقَلُ أَنْ يُحَاسَبُوا بِالْمُدَّةِ قَبْلَ الْعِلْمِ بِهَا.
وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ أَيْ: وَكُونُوا عَلَى عِلْمٍ قَطْعِيٍّ بِأَنَّكُمْ لَا تُعْجِزُونَ اللهَ تَعَالَى بِسِيَاحَتِكُمْ فِي الْأَرْضِ، وَلَا تَجِدُونَ لَكُمْ مَهْرَبًا مِنْ رَسُولِهِ وَعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا أَصْرَرْتُمْ عَلَى شِرْكِكُمْ وَعُدْوَانِكُمْ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ، بَلْ هُوَ يُسَلِّطُهُمْ عَلَيْكُمْ، وَيُؤَيِّدُهُمْ بِنَصْرِهِ الَّذِي وَعَدَهُمْ، كَمَا نَصَرَهُمْ فِي كُلِّ قِتَالٍ لَكُمْ مَعَهُمْ بَدْءًا أَوِ انْتِهَاءً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute