وَالْخُرَافَاتِ وَالطُّغْيَانِ، أَيْ مُجَاوَزَةُ سُنَنِ الْفِطْرَةِ وَحُدُودِ الشَّرِيعَةِ، وَلَا سِيَّمَا إِذَا أَرَادَ هَؤُلَاءِ مُقَاوَمَةَ أَهْلِ التَّوْحِيدِ وَالْحَقِّ
وَالِاعْتِدَالِ فِي سِيَاسَتِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ بِسَيْرِهِمْ عَلَى سُنَنِ الِاجْتِمَاعِ فِيهَا، وَهَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ سَبَبَ لَعْنِ اللهِ لِلْأُمَمِ هُوَ إِيمَانُهَا بِالْخُرَافَاتِ وَالْأَبَاطِيلِ وَالطُّغْيَانِ، وَأَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا يَنْصُرُ الْمُؤْمِنِينَ بِاجْتِنَابِهِمْ ذَلِكَ، وَتَدُلُّ بِطَرِيقِ اللُّزُومِ عَلَى أَنَّ الْأُمَمَ الْمَغْلُوبَةَ تَكُونُ أَقْرَبَ إِلَى الْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ مِنَ الْأُمَمِ الْغَالِبَةِ الْمَنْصُورَةِ، فَلْيُحَاسِبِ الْمُسْلِمُونَ أَنْفُسَهُمْ بِهَا وَبِمَا فِي مَعْنَاهَا مِنَ الْآيَاتِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (٣٠: ٤٧) ، لِيَتَبَيَّنَ لَهُمْ مِنْ كِتَابِ رَبِّهِمْ صِدْقُهُمْ فِي دَعْوَى الْإِيمَانِ مِنْ عَدَمِهِ، وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ إِلَيْهِ وَيُعَوِّلُونَ فِي أَمْرِ دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ عَلَيْهِ.
أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ قَالُوا: إِنَّ أَمْ هُنَا مُنْقَطِعَةٌ وَهِيَ عِنْدَ جُمْهُورِ الْبَصْرِيِّينَ لِلْإِضْرَابِ أَوِ الِاسْتِفْهَامِ، وَالْمُرَادُ بِالْإِضْرَابِ هُنَا: الِانْتِقَالُ مِنْ تَوْبِيخِهِمْ عَلَى الْإِيمَانِ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَتَفْضِيلِ الْمُشْرِكِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِلَى تَوْبِيخِهِمْ عَلَى الْبُخْلِ وَالشُّحِّ وَالْأَثَرَةِ، وَاخْتَارَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ أَنَّ أَمْ إِذَا وَقَعَتْ فِي أَوَّلِ الْكَلَامِ تَكُونُ لِلِاسْتِفْهَامِ الْمُجَرَّدِ [رَاجِعْ ص ٢٤ ج ٢ مِنَ التَّفْسِيرِ ط الْهَيْئَةِ الْمِصْرِيَّةِ الْعَامَّةِ لِلْكِتَابِ] ، وَالِاسْتِفْهَامُ هُنَا لِلْإِنْكَارِ، وَالتَّوْبِيخُ يُسْتَفَادُ مِنْ قَرِينَةِ الْمَقَامِ، أَيْ: لَيْسَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ كَمَا لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْكِتَابِ، بَلْ فَقَدُوا الْمُلْكَ كُلَّهُ بِظُلْمِهِمْ وَطُغْيَانِهِمْ فإذًا لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا أَيْ: وَلَوْ كَانَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ لَسَلَكُوا فِيهِ طَرِيقَ الْبُخْلِ وَالْأَثَرَةِ بِحَصْرِ مَنَافِعِهِ وَمَرَافِقِهِ فِي أَنْفُسِهِمْ، فَلَا يُعْطُونَ النَّاسَ نَقِيرًا مِنْهُ إِذْ ذَاكَ، وَالنَّقِيرُ: هُوَ النُّقْرَةُ أَوِ النُّكْتَةُ فِي ظَهْرِ نَوَاةِ التَّمْرِ، وَهِيَ الثَّقْبَةُ الَّتِي تَنْبُتُ مِنْهَا النَّخْلَةُ شُبِّهَتْ بِمَا نُقِرَ بِمِنْقَارِ الطَّائِرِ أَوْ مِنْقَارِ الْحَدِيدِ الَّذِي تُحْفَرُ بِهِ الْأَرْضُ الصُّلْبَةُ، وَالنَّقِيرُ كَالْفَتِيلِ فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ (٤٩) يُضْرَبُ بِهِ الْمَثَلُ فِي الشَّيْءِ الْقَلِيلِ وَالْحَقِيرِ التَّافِهِ، وَيُطْلَقُ النَّقِيرُ أَيْضًا عَلَى مَا نُقِرَ، أَيْ حُفِرَ مِنَ الْحَجَرِ أَوِ الْخَشَبِ فَجُعِلَ إِنَاءً يُنْبَذُ فِيهِ، وَكَذَلِكَ يُضْرَبُ الْمَثَلُ بِالْقِطْمِيرِ وَهِيَ الْقِشْرَةُ الدَّقِيقَةُ الَّتِي عَلَى النَّوَاةِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ التَّمْرَةِ.
وَحَاصِلُ الْمَعْنَى: أَنَّ هَؤُلَاءِ الْيَهُودَ أَصْحَابُ أَثَرَةٍ شَدِيدَةٍ وَشُحٍّ مُطَاعٍ يَشُقُّ عَلَيْهِمْ أَنْ يَنْتَفِعَ مِنْهُمْ أَحَدٌ مِنْ غَيْرِ أَنْفُسِهِمْ، فَإِذَا صَارَ لَهُمْ مُلْكٌ حَرَصُوا عَلَى مَنْعِ النَّاسِ أَدْنَى النَّفْعِ وَأَحْقَرَهُ، فَكَيْفَ لَا يَشُقُّ عَلَيْهِمْ أَنْ يَظْهَرَ نَبِيٌّ مِنَ الْعَرَبِ وَيَكُونَ لِأَصْحَابِهِ مِلْكٌ يَخْضَعُ لَهُمْ فِيهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ؟ وَهَذِهِ الصِّفَةُ لَا تَزَالُ غَالِبَةً عَلَى الْيَهُودِ ظَاهِرَةً فِيهِمْ، فَإِنْ
تَمَّ لَهُمْ مَا يَسْعَوْنَ إِلَيْهِ مِنْ إِعَادَةِ مُلْكِهِمْ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَمَا حَوْلَهُ فَإِنَّهُمْ يَطْرُدُونَ الْمُسْلِمِينَ وَالنَّصَارَى مِنْ تِلْكَ الْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ وَلَا يُعْطُونَهُمْ مِنْهَا نَقِيرًا مِنْ نَوَاةٍ أَوْ مَوْضِعَ زَرْعِ نَخْلَةٍ، أَوْ نُقْرَةً فِي أَرْضٍ أَوْ جَبَلٍ، وَهُمْ يُحَاوِلُونَ الْآنَ وَحَاوَلُوا قَبْلَ الْآنِ ذَلِكَ بِقَطْعِ أَسْبَابِ الرِّزْقِ عَنْ غَيْرِهِمْ، فَالنَّجَّارُ الْيَهُودِيُّ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ يَعْمَلُ لَكَ الْعَمَلَ بِأُجْرَةٍ أَقَلَّ مِنَ الْأُجْرَةِ الَّتِي يَرْضَى بِهَا الْمُسْلِمُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute