مِنَ الدَّجَلِ وَالْحِيَلِ، فَالْمَعْنَى الْجَامِعُ لِلَفْظِ الْجِبْتِ هُوَ الدَّجَلُ وَالْأَوْهَامُ وَالْخُرَافَاتُ، وَالْمَعْنَى الْجَامِعُ لِلَفْظِ الطَّاغُوتِ هُوَ مَا تَقَدَّمَ آنِفًا فِي تَفْسِيرِ آيَةِ الْكُرْسِيِّ مِنْ مُثَارَاتِ الطُّغْيَانِ.
وَمَعْنَى الْآيَةِ: أَلَمْ يَنْتَهِ عِلْمُكَ أَيُّهَا الرَّسُولُ أَوْ لَمْ تَنْظُرْ إِلَى حَالِ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ كَيْفَ حُرِمُوا هِدَايَتَهُ؟ فَهُمْ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَنْصُرُونَ أَهْلَهَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ الْمُصَدِّقِينَ بِنُبُوَّةِ أَنْبِيَائِهِ، وَحَقِّيَّةِ أَصْلِ كُتُبِهِمْ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينِ كَفَرُوا أَيْ: لِأَجْلِهِمْ وَفِي شَأْنِهِمْ وَالْحِكَايَةِ عَنْهُمْ: هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا، أَيْ يَقُولُونَ: إِنَّ الْمُشْرِكِينَ أَهْدَى وَأَرْشَدُ طَرِيقًا فِي الدِّينِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا مُحَمَّدًا ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَمَعْنَى الْكَلَامِ أَنَّ اللهَ وَصَفَ الَّذِينَ
أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ مِنَ الْيَهُودِ بِتَعْظِيمِهِمْ غَيْرَ اللهِ بِالْعِبَادَةِ وَالْإِذْعَانِ لَهُ بِالطَّاعَةِ فِي الْكُفْرِ بِاللهِ وَرَسُولِهِ، وَمَعْصِيَتِهِمَا وَأَنَّهُمْ قَالُوا: إِنَّ أَهْلَ الْكُفْرِ بِاللهِ أَوْلَى بِالْحَقِّ مِنْ أَهْلِ الْإِيمَانِ بِهِ، وَإِنَّ دِينَ أَهْلِ التَّكْذِيبِ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ أَعْدَلُ وَأَصْوَبُ مِنْ دِينِ أَهْلِ التَّصْدِيقِ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ اهـ.
ثُمَّ ذَكَرَ الرِّوَايَاتِ فِي ذَلِكَ عَنْهُمْ، وَمِنْهَا مَا تَقَدَّمَ عَنْ كَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ، وَمِنْهَا مَا رَوَاهُ أَيْضًا عَنْ عِكْرِمَةَ أَنَّ كَعْبَ بْنَ الْأَشْرَفِ انْطَلَقَ إِلَى الْمُشْرِكِينَ مِنْ كُفَّارِ قُرَيْشٍ فَاسْتَجَاشَهُمْ عَلَى النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَغْزُوهُ وَقَالَ: إِنَّا مَعَكُمْ نُقَاتِلُهُ، فَقَالُوا: إِنَّكُمْ أَهْلُ كِتَابٍ وَهُوَ صَاحِبُ كِتَابٍ وَلَا نَأْمَنُ أَنْ يَكُونَ هَذَا مَكْرًا مِنْكُمْ، فَإِنْ أَرَدْتَ أَنْ تَخْرُجَ مَعَنَا فَاسْجُدْ لِهَذَيْنَ الصَّنَمَيْنِ، وَأُمِرَ بِهِمَا فَفَعَلَ، ثُمَّ قَالُوا: نَحْنُ أَهْدَى أَمْ مُحَمَّدٌ؟ فَنَحْنُ نَنْحَرُ الْكَوْمَاءَ ـ النَّاقَةَ الضَّخْمَةَ السَّنَامِ ـ وَنَسْقِي اللَّبَنَ عَلَى الْمَاءِ، وَنَصِلُ الرَّحِمَ، وَنَقْرِي الضَّيْفَ، وَنَطُوفُ بِهَذَا الْبَيْتِ، وَمُحَمَّدٌ قَطَعَ رَحِمَهُ، وَخَرَجَ مِنْ بَلَدِهِ، فَقَالَ: بَلْ أَنْتُمْ خَيْرٌ وَأَهْدَى، وَمِنْهَا عَنِ السُّدِّيِّ قَالَ: لَمَّا كَانَ مِنْ أَمْرِ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَالْيَهُودِ بَنِي النَّضِيرِ مَا كَانَ حِينَ أَتَاهُمْ يَسْتَعِينُهُمْ فِي دِيَةِ الْعَامِرِيِّينَ فَهَمُّوا بِهِ وَبِأَصْحَابِهِ، فَأَطْلَعَ اللهُ رَسُولَهُ عَلَى مَا هَمُّوا مِنْ ذَلِكَ وَرَجَعَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ إِلَى الْمَدِينَةِ فَهَرَبَ كَعْبُ بْنُ الْأَشْرَفِ حَتَّى أَتَى مَكَّةَ فَعَاهَدَهُمْ عَلَى مُحَمَّدٍ، فَقَالَ لَهُ أَبُو سُفْيَانَ: نَحْنُ قَوْمٌ نَنْحَرُ الْكَوْمَاءَ وَنَسْقِي الْحَجِيجَ الْمَاءَ، وَنَقْرِي الضَّيْفَ، وَنُعَمِّرُ بَيْتَ رَبِّنَا، وَنَعْبُدُ آلِهَتَنَا الَّتِي كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا، وَمُحَمَّدٌ يَأْمُرُنَا أَنْ نَتْرُكَ هَذَا وَنَتَّبِعَهُ، قَالَ: دِينُكُمْ خَيْرٌ مِنْ دِينِ مُحَمَّدٍ فَاثْبُتُوا عَلَيْهِ، وَذَكَرَ رِوَايَاتٍ أُخْرَى.
أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ أَيْ: أُولَئِكَ الَّذِينَ بَيَّنَّا سُوءَ حَالِهِمْ هُمُ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ، أَيِ: اقْتَضَتْ سُنَّتُهُ فِي خَلْقِهِ أَنْ يَكُونُوا بُعَدَاءَ عَنْ مُوجِبَاتِ رَحْمَتِهِ وَعِنَايَتِهِ مِنَ الْإِيمَانِ بِاللهِ وَحْدَهُ وَالْكُفْرِ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَمَنْ يَلْعَنِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا أَيْ: وَمَنْ يَلْعَنْهُ اللهُ بِالْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرْنَاهُ آنِفًا فَلَنْ يَنْصُرَهُ أَحَدٌ مِنْ دُونِهِ ; إِذْ لَا سَبِيلَ لِأَحَدٍ إِلَى تَغْيِيرِ سُنَنِهِ تَعَالَى فِي خَلْقِهِ، وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ الْخِذْلَانُ وَالِانْكِسَارُ نَصِيبَ الْمُؤْمِنِينَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ، أَيْ: بِمَثَارِ الدَّجَلِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute