للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وَوَقَائِعُ هَذِهِ السُّورَةِ مَدَنِيَّةٌ كَمَا بَيَّنَاهُ، وَمُحَاجَّةُ الْيَهُودِ وَبَيَانُ أَحْوَالِهِمْ لَمْ يُفَصَّلْ إِلَّا فِي السُّوَرِ الْمَدَنِيَّةِ بَعْدَ ابْتِلَاءِ الْمُؤْمِنِينَ بِكَيْدِهِمْ فِيهَا وَفِي جِوَارِهَا، فَفِي الرِّوَايَةِ خَلْطٌ سَبَبُهُ اشْتِبَاهُ بَعْضِ الرُّوَاةِ فِي الْأَسْبَابِ الْمُتَشَابِهَةِ، وَسَيَأْتِي بَعْضُ رِوَايَاتِ ابْنِ جَرِيرٍ فِي ذَلِكَ، وَالْآيَاتُ مُتَّصِلَةٌ بِمَا قَبْلَهَا، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ هَذَا السِّيَاقُ كُلُّهُ قَدْ نَزَلَ بَعْدَ غَزْوَةِ الْأَحْزَابِ أَوْ فِي أَثْنَائِهَا ; إِذْ نَقَضَ الْيَهُودُ عَهْدَ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَاتَّحَدُوا مَعَ الْمُشْرِكِينَ عَلَى اسْتِئْصَالِ الْمُسْلِمِينَ، وَذَلِكَ هُوَ تَفْضِيلُهُمْ لِلْمُشْرِكِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ بِالْفِعْلِ، وَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونُوا صَرَّحُوا بِالتَّفْضِيلِ بِالْقَوْلِ عِنْدَ النِّدَاءِ بِالنَّفِيرِ لِحَرْبِ الْمُؤْمِنِينَ.

أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ الِاسْتِفْهَامُ لِلتَّعْجِيبِ مِنْ هَذِهِ الْحَالِ مِنْ أَحْوَالِهِمْ كَمَا سَبَقَ نَظِيرُهُ فِي الْآيَةِ الَّتِي افْتُتِحَتْ بِمِثْلِ مَا افْتُتِحَتْ بِهِ لِلتَّعْجِيبِ مِنْ ضَلَالِهِمْ فِي أَنْفُسِهِمْ وَإِرَادَتِهِمْ إِضْلَالَ الْمُؤْمِنِينَ، وَ " الْجِبْتُ " قَالَ بَعْضُ اللُّغَوِيِّينَ: أَصْلُهُ الْجِبْسُ، فَقُلِبَتِ التَّاءُ سِينًا، وَمَعْنَاهُ فِيهِمَا الرَّدِيءُ الَّذِي لَا خَيْرَ فِيهِ، وَأُطْلِقَ عَلَى السِّحْرِ، وَعَلَى السَّاحِرِ، وَعَلَى الشَّيْطَانِ، وَقِيلَ: إِنَّهُ حَبَشِيُّ الْأَصْلِ، رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنِ جُبَيْرٍ، وَأَبِي الْعَالِيَةِ: أَنَّهُ السَّاحِرُ، وَفِي رِوَايَةٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٍ: أَنَّهُ الْأَصْنَامُ، وَعَنْ عُمَرَ، وَمُجَاهِدٍ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى، وَابْنِ زَيْدٍ: أَنَّهُ السِّحْرُ.

وَ " الطَّاغُوتُ ": مِنْ مَادَّةِ الطُّغْيَانِ وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ فِي تَفْسِيرِ آيَةِ الْكُرْسِيِّ مِنَ الْجُزْءِ الثَّالِثِ [ص ٢٠ ج ٣ ط الْهَيْئَةِ الْمِصْرِيَّةِ الْعَامَّةِ لِلْكِتَابِ] ، بِأَنَّهُ كُلُّ مَا تَكُونُ عِبَادَتُهُ وَالْإِيمَانُ بِهِ سَبَبًا لِلطُّغْيَانِ وَالْخُرُوجِ عَنِ الْحَقِّ مِنْ مَخْلُوقٍ يُعْبَدُ، وَرَئِيسٍ يُقَلَّدُ، وَهَوًى يُتَّبَعُ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَمُجَاهِدٍ أَنَّ الطَّاغُوتَ: الشَّيْطَانُ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ الطَّاغُوتَ هُمُ النَّاسُ الَّذِينَ يَكُونُونَ بَيْنَ يَدَيِ الْأَصْنَامِ يُعَبِّرُونَ عَنْهَا الْكَذِبَ لِيُضِلُّوا النَّاسَ، وَقِيلَ: الطَّاغُوتُ: الْكُهَّانُ، وَقِيلَ: الْجِبْتُ وَالطَّاغُوتُ: صَنَمَانِ كَانَا لِقُرَيْشٍ، وَأَنَّ بَعْضَ الْيَهُودِ سَجَدُوا لَهُمَا مَرْضَاةً لِقُرَيْشٍ وَاسْتِمَالَةً لَهُمْ لِيَتَّحِدُوا مَعَهُمْ عَلَى قِتَالِ الْمُسْلِمِينَ، وَفِي حَدِيثِ قَطَنِ بْنِ قَبِيصَةَ عَنْ أَبِيهِ مَرْفُوعًا عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ: " الْعِيَافَةُ وَالطِّيَرَةُ، وَالطَّرْقُ مِنَ الْجِبْتِ " وَفَسَّرَ الْعِيَافَةَ بِالْخَطِّ، وَهُوَ ضَرْبُ الرَّمْلِ، وَتُطْلَقُ الْعِيَافَةُ عَلَى التَّفَاؤُلِ وَالتَّشَاؤُمِ بِمَا يُؤْخَذُ مِنَ الْأَلْفَاظِ بِطَرِيقِ الِاشْتِقَاقِ كَقَوْلِ الشَّاعِرِ:

تَفَاءَلْتُ فِي أَنْ تَبْذُلِي طَارِفَ الْوَفَا ... بِأَنْ عَنَّ لِي مِنْكِ الْبَنَانُ الْمُطَرَّفُ

وَفِي عَرَفَاتٍ مَا يُخْبِرُ أَنَّنِي ... بِعَارِفَةٍ مِنْ طِيبِ قَلْبِكِ أُسْعَفُ

وَأَمَّا دِمَاءُ الْهَدْيِ فَهْوَ هَدْيٌ لَنَا ... يَدُومُ وَرَأْيٌ فِي الْهَوَى يَتَأَلَّفُ

فَأَوْصَلَتَا مَا قُلْتُهُ فَتَبَسَّمَتْ ... وَقَالَتْ أَحَادِيثُ الْعِيَافَةِ زُخْرُفُ

وَالطِّيَرَةُ: التَّشَاؤُمُ، وَأَصْلُهُ مِنْ زَجْرِ الطَّيْرِ، وَالطَّرْقُ: هُوَ الضَّرْبُ بِالْحَصَا أَوِ الْوَدَعِ، أَوْ حَبِّ الْفُولِ، أَوِ الرَّمْلِ لِمَعْرِفَةِ الْبَخْتِ وَمَا غَابَ مِنْ أَحْوَالِ الْإِنْسَانِ، وَهَذِهِ الْأُمُورُ كُلُّهَا

<<  <  ج: ص:  >  >>