للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

فِي سِلْكِ أُصُولِ الدِّينِ وَالِاعْتِقَادَاتِ، فَصَارُوا يَتَعَبَّدُونَ بِذَبْحِ الذَّبَائِحِ لِآلِهَتِهِمْ وَمَنْ قَدَّسُوا مِنْ رِجَالِ دِينِهِمْ، وَيُهِلُّونَ لَهُمْ

بِهَا عِنْدَ ذَبْحِهَا كَمَا يَأْتِي، وَهَذَا شِرْكٌ بِاللهِ لِأَنَّهُ عِبَادَةٌ تُوَجَّهُ إِلَى غَيْرِهِ سَوَاءٌ أَسَمَّى ذَلِكَ الْغَيْرُ إِلَهًا أَوْ مَعْبُودًا أَمْ لَا، وَقَدْ غَفَلَ عَنْ هَذَا بَعْضُ كِبَارِ الْمُفَسِّرِينَ فَلَمْ يَهْتَدِ إِلَيْهِ بِذَكَائِهِ وَعِلْمِهِ وَلَمْ يَرْوِهِ عَنْ غَيْرِهِ، فَاسْتَشْكَلَ هُوَ وَمَنْ تَبِعَهُ الْمَسْأَلَةَ وَقَالُوا: إِنَّ الْمُشْرِكِينَ لَمْ يَكُونُوا يُحَرِّمُونَ مَا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَلَا يَمْتَنِعُونَ مِنْ أَكْلِهِ، وَلَكِنَّهُمْ كَانُوا يَأْكُلُونَ الْمَيْتَةَ أَيْضًا، فَكَيْفَ نَازَعَهُمْ فِي الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ وَسَكَتَ عَنِ الْمُخْتَلَفِ فِيهِ؟ وَأَجَابُوا عَنِ السُّؤَالِ بِاحْتِمَالِ أَنَّهُمْ كَانُوا يُحَرِّمُونَ الْمُذَّكَاةَ، وَبِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِمَا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ الِاقْتِصَارَ عَلَى الْمُذَكَّى دُونَ غَيْرِهِ فَيَكُونُ بِمَعْنَى تَحْرِيمِ الْمَيْتَةِ، وَكُلٌّ مِنَ الْوَجْهَيْنِ بَاطِلٌ وَلَا مَحَلَّ لَهُ هُنَا كَمَا عَلِمْتَ، وَقَدْ بَيَّنَّا مِنْ قَبْلُ أَنَّ سَبَبَ غَفْلَةِ أَذْكِيَاءِ الْمُفَسِّرِينَ عَنْ أَمْثَالِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ اقْتِصَارُهُمْ فِي أَخْذِ التَّفْسِيرِ عَلَى الرِّوَايَاتِ الْمَأْثُورَةِ وَمَدْلُولِ الْأَلْفَاظِ فِي اللُّغَةِ أَوْ فِي عُرْفِ الْفُقَهَاءِ وَالْأُصُولِيِّينَ وَالْمُتَكَلِّمِينَ الَّذِي حَدَثَ بَعْدَ نُزُولِ الْقُرْآنِ بِزَمَنٍ طَوِيلٍ، وَلَا يُغْنِي شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ عَنِ الِاسْتِعَانَةِ عَلَى فَهْمِ الْآيَاتِ الْوَارِدَةِ فِي شُئُونِ الْبَشَرِ بِمَعْرِفَةِ الْمِلَلِ وَالنِّحَلِ وَتَارِيخِ أَهْلِهَا وَمَا كَانُوا عَلَيْهِ فِي عَصْرِ التَّنْزِيلِ. وَقَدْ كَانَ مِنْ أَثَرِ تَقْصِيرِ الْمُفَسِّرِينَ وَعُلَمَاءِ الْعَقَائِدِ وَالْأَحْكَامِ فِي أَهَمِّ مَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ فَهْمُ الْمُرَادِ مِنْ أَمْثَالِ هَذِهِ الْآيَاتِ أَنْ وَقَعَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فِيمَا كَانَ عَلَيْهِ أُولَئِكَ الضَّالُّونَ مِنْ مُشْرِكِي الْعَرَبِ وَغَيْرِهِمْ، حَتَّى الذَّبْحِ لِبَعْضِ الصَّالِحِينَ وَتَسْيِيبِ السَّوَائِبِ لَهُمْ كَعِجْلِ الْبَدَوِيِّ الْمَشْهُورِ أَمْرُهُ فِي أَرْيَافِ مِصْرَ، وَلَمَّا سَرَتْ هَذِهِ الضَّلَالَةُ إِلَى الْمُسْلِمِينَ ذَكَرَ الْفُقَهَاءِ حُكْمَهَا وَمَتَى تَكُونُ كُفْرًا كَمَا سَيَأْتِي، وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ أَنَّ مَسْأَلَةَ الذَّبَائِحِ مِنْ مَسَائِلِ الْعِبَادَاتِ الَّتِي كَانَ يُتَقَرَّبُ بِهَا إِلَى اللهِ تَعَالَى، ثُمَّ صَارُوا فِي عَهْدِ الْوَثَنِيَّةِ يَتَقَرَّبُونَ بِهَا إِلَى غَيْرِهِ وَذَلِكَ شِرْكٌ صَرِيحٌ، وَهَذَا هُوَ الْوَجْهُ لِذِكْرِهَا فِي هَذِهِ السُّورَةِ بَيْنَ مَسَائِلِ الْكُفْرِ وَالْإِيمَانِ وَالشِّرْكِ وَالتَّوْحِيدِ.

(وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ) تَقُولُ الْعَرَبُ مَا لَكَ أَلَّا تَفْعَلَ كَذَا، وَهُوَ مِنْ مُوجَزِ الْكَلَامِ بِالْحَذْفِ وَالتَّقْدِيرِ، وَتَقْدِيرُ الْكَلَامِ هُنَا وَأَيُّ شَيْءٍ ثَبَتَ لَكُمْ مِنَ الْفَائِدَةِ فِي تَرْكِ الْأَكْلِ مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ؟ وَكَلِمَةُ " فِي " تُحْذَفُ قَبْلَ أَنْ وَأَنَّ قِيَاسًا. وَقِيلَ: إِنَّ مَعْنَى الْجُمْلَةِ: وَأَيُّ شَيْءٍ يَمْنَعُكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ؟ وَإِنَّ هَذَا مَعْرُوفٌ فِي كَلَامِهِمْ، وَالتَّقْدِيرُ الْأَوَّلُ أَظْهَرُ وَأَبْعَدُ عَنِ التَّكْلِيفِ

. وَالِاسْتِفْهَامُ هُنَا لِلْإِنْكَارِ، أَيْ لَا فَائِدَةَ لَكُمْ أَلْبَتَّةَ فِي عَدَمِ الْأَكْلِ مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ وَحْدَهُ عَلَيْهِ دُونَ مَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِهِ كَمَا يَفْعَلُهُ الْمُشْرِكُونَ مِنْ قَوْمِكُمْ (وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ) أَيْ وَالْحَالُ أَنَّهُ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ وَبَيَّنَهُ بِقَوْلِهِ الْآتِي فِي هَذِهِ السُّورَةِ (قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ) (١٤٥) أَيْ ذُكِرَ اسْمُ غَيْرِهِ عَلَيْهِ عِنْدَ ذَبْحِهِ كَأَسْمَاءِ الْأَصْنَامِ أَوِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ الَّذِينَ وُضِعَتِ الْأَصْنَامُ وَالتَّمَاثِيلُ ذِكْرَى لَهُمْ. وَالتَّفْصِيلُ وَالتَّبْيِينُ وَاحِدٌ، فَهُوَ فَصْلُ بَعْضِ الْأَشْيَاءِ وَإِبَانَتُهَا مِنْ بَعْضٍ

<<  <  ج: ص:  >  >>