للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

مِنَ الْخُلَفَاءِ عَلَى الْأَفْكَارِ وَالْأَذْهَانِ، وَقَدِ اخْتَلَفَ الْمُتَكَلِّمُونَ فِي وَجْهِ دَلَالَةِ الْمُعْجِزَةِ عَلَى الرِّسَالَةِ، وَقَالَ الْغَزَّالِيُّ: إِنَّهُ لَا عَلَاقَةَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ إِبْرَاءِ الْأَكْمَهِ وَالْأَبْرَصِ، أَوِ انْقِلَابِ الْعَصَا حَيَّةً، وَدَلَالَةُ الْقُرْآنِ بِبَلَاغَتِهِ مِثْلُهَا بِخِلَافِ دَلَالَتِهِ الْعِلْمِيَّةِ، فَإِنَّهَا عَقْلِيَّةٌ كَدَلَالَةِ مُدَّعِي عِلْمِ الطِّبِّ عَلَى عِلْمِهِ بِكِتَابٍ أَلَّفَهُ فِيهِ يُعَالِجُ بِهِ الْمَرْضَى فَيَبْرَءُونَ. فَالْبَلَاغَةُ تَكُونُ بِالسَّلِيقَةِ، وَلَكِنْ لَا تَظْهَرُ فَجْأَةً وَكَامِلَةً فِي سِنِّ الْكُهُولَةِ، وَالْعِلْمُ لَا يَكُونُ إِلَّا بِالتَّعَلُّمِ قَبْلَ هَذِهِ السِّنِّ، وَعِلْمُ الْغَيْبِ خَاصٌّ بِاللهِ - تَعَالَى -، فَثَبَتَ بِهَذَا أَنَّ عِلْمَ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَحْيٌ بَرَزَ بِكَلَامٍ مُعْجِزٍ لِلْخَلْقِ.

وَالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي آتَى هَذَا الْعَبْدَ الضَّعِيفَ الْمُتَأَخِّرَ مِنْ هَذِهِ الْكَلِمَةِ وَالْفَهْمِ فِي كِتَابِهِ مَا لَمْ يُؤْتِ أُولَئِكَ الْجَهَابِذَةَ الْأَقْوِيَاءَ مِنْ أَئِمَّةِ الْعِلْمِ وَفُرْسَانِ الْكَلَامِ، إِثْبَاتًا لِمَا وَصَفَ بِهِ مِنْ كَوْنِهِ لَا تَنْتَهِي عَجَائِبُهُ، وَلَا يُحِيطُ

أَحَدٌ بِهِ عِلْمًا، وَأَنَّ فَضْلَهُ عَلَى عِبَادِهِ لَا يَنْحَصِرُ فِي زَمَانٍ وَلَا مَكَانٍ.

وَيُؤَيِّدُ مَا اخْتَرْتُهُ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي تَقْرِيرِ هَذَا الِاحْتِجَاجِ مِنْ أَنَّ الْعَجْزَ عَنِ الْمُعَارَضَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ مِنَ الْعِلْمِ الْإِلَهِيِّ قَوْلُهُ - تَعَالَى -:

(فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ) فِي هَذَا الْخِطَابِ وَجْهَانِ صَحِيحَانِ: (الْوَجْهُ الْأَوَّلُ) أَنَّهُ تَتِمَّةٌ لِمَا أُمِرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَتَحَدَّى بِهِ الْمُشْرِكِينَ، فَهُوَ يَقُولُ لَهُمْ: فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِبْ لَكُمْ مَنْ تَدْعُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ لِيُظَاهِرُوكُمْ عَلَى الْإِتْيَانِ بِالْعَشْرِ السُّوَرِ الْمُمَاثِلَةِ لِسُوَرِ الْقُرْآنِ، مِنْ آلِهَتِكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ وَتَعْبُدُونَ، وَهَوَاجِسِكُمُ الَّذِينَ يُلَقِّنُونَكُمُ الشِّعْرَ كَمَا تَزْعُمُونَ، وَقُرَنَائِكُمْ مِنْ فُحُولِ الشُّعَرَاءِ وَمَصَاقِعِ الْخُطَبَاءِ، وَمِنْ عُلَمَاءِ أَهْلِ الْكِتَابِ الْعَارِفِينَ بِأَخْبَارِ الْأَنْبِيَاءِ ; لِعَجْزِ الْجَمِيعِ عَنْ ذَلِكَ (فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللهِ) أَيْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِمُقْتَضَى عِلْمِ اللهِ، مُلَابِسًا لَهُ، مُبَيِّنًا لِمَا أَرَادَ أَنْ يُبَلِّغَهُ لِعِبَادِهِ مِنْ دِينِهِ عَلَى أَلْسِنَةِ رُسُلِهِ، لَا بِعِلْمِ مُحَمَّدٍ وَلَا غَيْرِهِ مِمَّنْ تَدَّعُونَ زُورًا أَنَّهُمْ أَعَانُوهُ عَلَيْهِ ; لِأَنَّهُ فِي جُمْلَتِهِ مِنْ عَلْمِ الْغَيْبِ الَّذِي لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا مَنْ أَعْلَمَهُ اللهُ - تَعَالَى - بِهِ، كَمَا قَالَ: (فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ) (٧: ٧) وَكَمَا تَرَاهُ فِي آخِرِ قِصَّةِ نُوحٍ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ هُودٍ (الْآيَةَ ٤٩) وَمِثْلُهَا فِي آخِرِ سُورَةِ يُوسُفَ (١٢: ١٠٢) وَمِثْلُهُمَا فِي سُورَةِ الْقَصَصِ (٢٨: ٤٤ - ٤٦) وَقَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى بَعْدَ ذَلِكَ: (لَكِنِ اللهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللهِ شَهِيدًا) (٤: ١٦٦) وَقَالَ: (عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ) (٧٢: ٢٦ و٢٧) إِلَخْ. وَمَا فِيهَا مِنَ الْعِلْمِ الْكَسْبِيِّ لَمْ يَكْسِبْ مِنْهُ مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شَيْئًا.

الِاسْتِجَابَةُ لِلدَّاعِي إِلَى الشَّيْءِ كَإِجَابَتِهِ إِلَيْهِ، وَعَدَمُ الِاسْتِجَابَةِ لَهُمْ دَاحِضَةٌ لِدَعْوَاهُمْ، مُثْبِتَةٌ لِكَوْنِ هَذِهِ الْعُلُومِ الَّتِي فِيهِ مِنْ عِلْمِ اللهِ لَا مِنْ عِلْمِ الْبَشَرِ، وَهُوَ صَرِيحٌ فِي أَنَّ الْمُرَادَ إِنَّمَا هُوَ

<<  <  ج: ص:  >  >>