وَإِنَّنِي أَجْزِمُ هُنَا - بَعْدَ التَّأَمُّلِ فِي جَمِيعِ آيَاتِ التَّحَدِّي وَتَارِيخِ نُزُولِ سُوَرِهَا - أَنَّهَا لَمْ يَكُنْ مُرَاعًى بِهَا التَّرْتِيبُ التَّارِيخِيُّ فِي مُخَاطَبَةِ الْمُشْرِكِينَ كَمَا زَعَمَ جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ، بَلْ ذُكِرَ كُلٌّ مِنْهَا بِمُنَاسَبَةِ سِيَاقِ سُورَتِهِ، فَسُورَةُ الطُّورِ الَّتِي فِيهَا: (أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لَا يُؤْمِنُونَ فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ) (٥٢: ٣٣ و٣٤) وَهُوَ تَحَدٍّ بِجُمْلَتِهِ، قَدْ نَزَلَتْ بَعْدَ سُورَتَيْ يُونُسَ وَهُودٍ اللَّتَيْنِ تَحَدَّاهُمْ فِيهَا بِالْعَشْرِ بَعْدَ الْوَاحِدَةِ. وَسُورَةُ الْإِسْرَاءِ نَزَلَتْ قَبْلَهُنَّ، وَفِيهَا ذِكْرُ عَجْزِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ عَنِ الْإِتْيَانِ بِمِثْلِهِ (١٧: ٨٨) وَلَكِنَّهُ لَمْ يَكُنْ تَحَدِّيًا، وَكَانَ آخِرَ مَا نَزَلَ فِي التَّحَدِّي آيَةُ سُورَةِ الْبَقَرَةِ (٢: ٢٣) وَهُوَ تَحَدٍّ لِلْمُرْتَابِينَ فِيمَا نَزَّلَهُ اللهُ عَلَى عَبْدِهِ بِأَنْ يَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ ; إِذْ كَانَ نُزُولُهَا فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ لِلْهِجْرَةِ.
الْخُلَاصَةُ أَنَّ مُشْرِكِي مَكَّةَ الْمُعَانِدِينَ لَمْ يَجِدُوا شُبْهَةً عَلَى الْقُرْآنِ - بَعْدَ شُبْهَةِ السِّحْرِ الْقَدِيمَةِ الَّتِي لَمْ تَلْقَ رَوَاجًا عِنْدَ الْعَرَبِ ; لِأَنَّهُ كَلَامٌ بِلُغَتِهِمْ عَرَفُوهُ وَعَقَلُوهُ وَأَدْرَكُوا عُلُوَّهُ عَلَى سَائِرِ الْكَلَامِ - إِلَّا زَعْمَهُمْ أَنَّ مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدِ افْتَرَاهُ فِي جُمْلَتِهِ، وَمَا هُوَ وَحْيٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ - تَعَالَى -، فَتَحَدَّاهُمْ بِالْإِتْيَانِ بِمِثْلِهِ بِالْإِجْمَالِ، وَبِسُورَةٍ مِثْلِهِ فِي جُمْلَةِ مَزَايَاهُ مِنْ نَظْمِهِ وَأُسْلُوبِهِ، وَبَلَاغَتِهِ وَعُلُومِهِ، وَتَأْثِيرِ هِدَايَتِهِ، وَسُلْطَانِهِ الْإِلَهِيِّ عَلَى الْأَرْوَاحِ وَالْعُقُولِ فَعَجَزُوا، وَبَقِيَتْ لَهُمْ شُبْهَةٌ عَلَيْهِ فِي قِصَصِهِ ; إِذِ ادَّعَى أَنَّهَا مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ أَوْحَاهُ اللهُ إِلَيْهِ، فَزَعَمُوا أَنَّهُ إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ،
وَأَنَّهُ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا لِنَفْسِهِ فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ وَيُلَقَّنُهَا لِئَلَّا يَنْسَاهَا، وَهَذِهِ شُبْهَةٌ خَاصَّةٌ مُوَجَّهَةٌ إِلَى قِصَصِهِ الْمُتَفَرِّقَةِ فِي سُوَرِهِ الْكَثِيرَةِ، لَا يَدْحَضُهَا عَجْزُهُمْ عَنِ الْإِتْيَانِ بِسُورَةٍ وَاحِدَةٍ مِثْلِهِ فِي بَلَاغَتِهَا الَّتِي حَصَرُوا الْإِعْجَازَ فِيهَا، وَلَا إِبْدَاعُ نَظْمِهَا وَلَا طَرَافَةُ أُسْلُوبِهَا أَيْضًا، وَلَا سِيَّمَا إِذَا كَانَتْ قَصِيرَةً، فَتَحَدَّاهُمْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ، أَيْ مِثْلِ هَذِهِ الْقِصَصِ الَّتِي زَعَمُوا أَنَّهَا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ، وَإِنَّمَا تَكُونُ مِثْلَهَا إِذَا كَانَتْ جَامِعَةً لِمَزَايَاهَا الْمَعْنَوِيَّةِ الْعِلْمِيَّةِ الَّتِي بَيَّنَّا أَظْهَرَهَا فِي الْجُمَلِ الْعَشْرِ آنِفًا.
وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ أَنَّ التَّحَدِّيَ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ قَدْ كَانَ لِإِبْطَالِ هَذِهِ التُّهْمَةِ الْخَاصَّةِ مِنَ الِافْتِرَاءِ، وَقَدْ بَيَّنَّا مَعْنَاهَا، وَالسُّوَرُ الْمُفَصَّلَةُ فِيهَا الَّتِي تَمَّتْ عَشْرًا بِهَذِهِ السُّورَةِ (هُودٍ) وَكَلَّفَهُمْ دَعْوَةَ مَنِ اسْتَطَاعُوا مِنْ دُونِ اللهِ - تَعَالَى - لِيُظَاهِرُوهُمْ فَعَجَزُوا، وَلَمْ يَجِدُوا مِنْ آلِهَتِهِمْ وَلَا مِنْ فُصَحَائِهِمْ وَلَا مِنْ أَعْدَاءِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَسْتَجِيبُ لَهُمْ، فَقَامَتْ عَلَيْهِمُ الْحُجَّةُ وَعَلَى غَيْرِهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَهَذِهِ حِكْمَةُ هَذَا التَّحَدِّي الظَّاهِرَةُ هُنَا.
وَلَهُ حِكْمَةٌ أُخْرَى بَاطِنَةٌ لَازِمَةٌ لِلْأُولَى هِيَ الَّتِي تَمَّتْ بِهَا الْفَائِدَةُ، وَهِيَ أَنَّهُ يُوَجِّهُ الْأَنْظَارَ وَيَشْغَلُ الْأَفْكَارَ بِالتَّأَمُّلِ فِي الْقُرْآنِ، وَتَدَبُّرِ مَا حَوَاهُ مِنْ حِكْمَةٍ وَعِرْفَانٍ، وَمَا لَهَا فِي الْقُلُوبِ وَالْعُقُولِ مِنْ تَأْثِيرٍ وَسُلْطَانٍ، فَيَا حَسْرَةً عَلَى الْغَافِلِينَ الَّذِينَ زَعَمُوا أَنَّ إِعْجَازَهَا مَحْصُورٌ فِي فَصَاحَةِ الْمُفْرَدَاتِ وَالْجُمَلِ وَبَلَاغَةِ الْبَيَانِ، عَلَى مَا فِي دَلَالَةِ الْفَصَاحَةِ وَالْبَلَاغَةِ عَلَى النُّبُوَّةِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute