عَلَى مَا كَانَ مِنْ إِسْرَارِهِمْ بِالْوَلَاءِ لَهُمْ، وَفَسَّرَهُ بَعْضُهُمْ بِالْإِيقَاعِ بِالْيَهُودِ وَإِجْلَائِهِمْ عَنْ مَوْطِنِهِمْ وَإِخْرَاجِهِمْ مِنْ حُصُونِهِمْ وَصَيَاصِيهِمْ، إِمَّا بِالْقَهْرِ وَالْإِيجَافِ عَلَيْهِمْ بِالْخَيْلِ وَالرِّكَابِ (كَبَنِي قُرَيْظَةَ) وَإِمَّا بِإِلْقَاءِ الرُّعْبِ فِي قُلُوبِهِمْ، حَتَّى يُعْطُوا بِأَيْدِيهِمْ (كَبَنِي النَّضِيرِ) .
(وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا) قَرَأَ عَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ " وَيَقُولُ " بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهُ كَلَامٌ مُبْتَدَأٌ مَعْطُوفٌ عَلَى مَا قَبْلَهُ عَطَفَ الْجُمَلِ، وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ وَنَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ مَرْفُوعًا بِغَيْرِ وَاوٍ عَلَى أَنَّهُ جَوَابُ سُؤَالٍ تَقْدِيرُهُ: فَمَاذَا يَقُولُ الْمُؤْمِنُونَ حِينَئِذٍ؟ وَقَرَأَهُ أَبُو عَمْرٍو وَيَعْقُوبُ بِالنَّصْبِ، عَطَفَا عَلَى " يَأْتِي "؛ أَيْ فَعَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ، وَأَنْ يَقُولَ الَّذِينَ آمَنُوا حِينَئِذٍ: (أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ) أَيْ يَقُولُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ مُتَعَجِّبِينَ مِنْ عَاقِبَةِ الْمُنَافِقِينَ: أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللهِ أَغْلَظَ الْأَيْمَانِ، مُجْتَهِدِينَ فِي تَوْكِيدِهَا، إِنَّهُمْ مِنْكُمْ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ، وَعَلَى دِينِكُمْ، وَمَعَكُمْ فِي حَرْبِكُمْ وَسِلْمِكُمْ؟ كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ " بَرَاءَةٍ " الَّتِي فَضَحَتْهُمْ: (وَيَحْلِفُونَ بِاللهِ إِنَّهُمْ لِمَنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ) (٩: ٥٦) أَيْ فَهُمْ لِفَرَقِهِمْ وَخَوْفِهِمْ يُظْهِرُونَ الْإِسْلَامَ تَقِيَّةً (لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلًا لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ) (٩: ٥٧) أَيْ يُسْرِعُونَ إِسْرَاعَ الْفَرَسِ الْجَمُوحِ ; فِرَارًا مِنَ الْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ، وَتَوَارِيًا عَنْهُمْ، وَاعْتِصَامًا مِنْهُمْ، أَوْ يَقُولُونَ ذَلِكَ لِلْيَهُودِ الَّذِينَ كَانُوا يَغْتَرُّونَ بِمُوَالَاةِ الْمُنَافِقِينَ وَمَوَدَّتِهِمُ السِّرِّيَّةِ لَهُمْ، وَيَظُنُّونَ أَنَّهُمْ إِذَا نَقَضُوا عَهْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحَارَبُوهُ ; يَجِدُونَ مِنْهُمْ أَعْوَانًا وَأَنْصَارًا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ يُقَاتِلُونَ مَعَهُمْ، أَوْ يُوقِعُونَ الْفَشَلَ وَالتَّخْذِيلَ فِي جَيْشِ الْمُسْلِمِينَ لِأَجْلِهِمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْحَشْرِ: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لَا يَنْصُرُونَهُمْ) (٥٩: ١١، ١٢) . . . إِلَخْ.
وَقَوْلُهُ: (حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ) يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ حِكَايَةِ قَوْلِ الْمُؤْمِنِينَ، وَيَكُونَ مَعْنَاهُ: بَطَلَتْ أَعْمَالُهُمُ الَّتِي كَانُوا يَتَكَلَّفُونَهَا نِفَاقًا ; لِيُقْنِعُوكُمْ بِأَنَّهُمْ مِنْكُمْ ; كَالصَّلَاةِ، وَالصِّيَامِ، وَالْجِهَادِ مَعَكُمْ، فَخَسِرُوا مَا كَانَ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا مِنَ الْأَجْرِ وَالثَّوَابِ، لَوْ صَلَحَ حَالُهُمْ وَقَوِيَ إِيمَانُهُمْ بِهَا، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَفِيهِ مَعْنَى التَّعَجُّبِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: مَا أَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ! وَمَا أَخْسَرَهَا! وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ قَوْلِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ تَعْقِيبًا عَلَى قَوْلِ الْمُؤْمِنِينَ، فَهُوَ شَهَادَةٌ مِنْهُ تَعَالَى بِحُبُوطِ أَعْمَالِهِمِ الْإِسْلَامِيَّةِ ; إِذْ كَانَتْ تَقِيَّةً، لَا تَقْوَى
فِيهَا وَلَا إِخْلَاصَ، وَبِخُسْرَانِهِمْ فِي الدُّنْيَا بَعْدَ الْفَضِيحَةِ، وَفِي الْآخِرَةِ يَوْمَ الْجَزَاءِ.
وَفِي هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ مِنْ خَبَرِ الْغَيْبِ مَا هُوَ صَرِيحٌ، وَفِي " عَسَى " هُنَا يَصِحُّ قَوْلُ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّ الرَّجَاءَ مِنَ اللهِ تَعَالَى لِلتَّحْقِيقِ، وَقَدْ صَدَقَ اللهُ وَعْدَهُ، وَنَصْرَ عَبْدَهُ، وَأَعَزَّ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute