للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

(يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) فَبَيَّنَ مَزِيَّةَ النُّورِ وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ بِضَمِيرِ الْمُفْرَدِ فَقَالَ: (يَهْدِي بِهِ) وَلَمْ يَقُلْ " بِهِمَا "، فَكَانَ هَذَا مُرَجِّحًا لِكَوْنِ الْمُرَادِ بِهِمَا وَاحِدًا، وَهُوَ الْقُرْآنُ. وَثَمَّ شَوَاهِدُ أُخْرَى تُؤَيِّدُ مَا اخْتَرْنَاهُ غَيْرُ آيَتَيِ النِّسَاءِ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي

الْمُهْتَدِينَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ بَعْدَ ذِكْرِ بَعْثَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهِمْ: (فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِيَ أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (٧: ١٥٧) وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ التَّغَابُنِ: (فَآمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا) (٦٤: ٨) عَلَى أَنَّ هَذَا الْمَعْنَى لَا يَتَغَيَّرُ إِذَا قُلْنَا: إِنِ النُّورَ هُنَا هُوَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِنَّهُ هُوَ الْمَظْهَرُ الْأَكْمَلُ لِلْقُرْآنِ بِبَيَانِهِ لَهُ، وَتَخَلُّقِهِ بِهِ، كَمَا قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا: " كَانَ خُلُقُهُ الْقُرْآنَ "، وَلَا نُعْدَمُ لِذَلِكَ شَاهِدًا مِنْ آيَاتِهِ، فَقَدْ وَصَفَهُ اللهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْأَحْزَابِ بِقَوْلِهِ: (وَسِرَاجًا مُنِيرًا) (٣٣: ٤٦) .

وَلْيَرْجِعِ الْقَارِئُ إِلَى تَفْسِيرِنَا لِآيَتَيِ النِّسَاءِ اللَّتَيْنِ ذَكَرْنَاهُمَا آنِفًا، فَقَدْ بَيَّنَّا فِي تَفْسِيرِهِمَا مَعْنَى كَوْنِ الْقُرْآنِ مُبِينًا بِمَا يَنْفَعُهُ فِي فَهْمِ مَا هُنَا.

وَقَدْ ذَكَرَ اللهُ هُنَا لِهَذَا النُّورِ ثَلَاثَ فَوَائِدَ.

(الْفَائِدَةُ الْأُولَى) : أَنَّهُ يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ ; أَيْ إِنَّ مَنِ اتَّبَعَ مِنْهُمْ مَا يُرْضِيهِ تَعَالَى بِالْإِيمَانِ بِهَذَا النُّورِ يَهْدِيهِ - هِدَايَةَ دَلَالَةٍ تَصْحَبُهَا الْعِنَايَةُ وَالْإِعَانَةُ - الطُّرُقَ الَّتِي يَسْلَمُ بِهَا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ مِنْ كُلِّ مَا يُرْدِيهِ وَيُشْقِيهِ، فَيَقُومُ فِي الدُّنْيَا بِحُقُوقِ اللهِ تَعَالَى وَحُقُوقِ نَفْسِهِ الرُّوحِيَّةِ وَالْجَسَدِيَّةِ وَحُقُوقِ النَّاسِ، فَيَكُونُ مُتَمَتِّعًا بِالطَّيِّبَاتِ مُجْتَنِبًا لِلْخَبَائِثِ، تَقِيًّا مُخْلِصًا، صَالِحًا مُصْلِحًا، وَيَكُونُ فِي الْآخِرَةِ سَعِيدًا مُنَعَّمًا، جَامِعًا بَيْنَ النَّعِيمِ الْحِسِّيِّ الْجَسَدِيِّ وَالنَّعِيمِ الرُّوحِيِّ الْعَقْلِيِّ. وَخُلَاصَةُ هَذِهِ الْفَائِدَةِ أَنَّهُ يَتْبَعُ دِينًا يَجِدُ فِيهِ جَمِيعَ الطُّرُقِ الْمُوَصِّلَةِ إِلَى مَا تَسْلَمُ بِهِ النَّفْسُ مِنْ شَقَاءِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ; لِأَنَّهُ دِينُ السَّلَامِ وَالْإِخْلَاصِ لِلَّهِ وَلِعِبَادِهِ، دِينُ الْمُسَاوَاةِ وَالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَالْفَضْلِ.

(الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةُ) : الْإِخْرَاجُ مِنْ ظُلُمَاتِ الْوَثَنِيَّةِ وَالْخُرَافَاتِ وَالْأَوْهَامِ الَّتِي أَفْسَدَ بِهَا الرُّؤَسَاءُ جَمِيعَ الْأَدْيَانِ وَاسْتَعْبَدُوا أَهْلَهَا إِلَى نُورِ التَّوْحِيدِ الْخَالِصِ الَّذِي يُحَرِّرُ صَاحِبَهُ مِنْ رِقِّ رُؤَسَاءِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا، فَيَكُونُ بَيْنَ الْخَلْقِ حُرًّا كَرِيمًا، وَبَيْنَ يَدَيِ الْخَالِقِ وَحْدَهُ عَبْدًا خَاضِعًا. وَقَوْلُهُ: (بِإِذْنِهِ) فَسَّرُوهُ بِمَشِيئَتِهِ وَبِتَوْفِيقِهِ. وَالْإِذْنُ الْعِلْمُ. يُقَالُ أَذِنَ بِالشَّيْءِ: إِذَا عَلِمَ بِهِ، وَآذَنْتُهُ بِهِ: أَعْلَمْتُهُ فَأَذِنَ، وَيُقَالُ أَذَّنَ - بِالتَّشْدِيدِ - وَتَأَذَّنَ بِمَعْنَى أَعْلَمَ غَيْرَهُ، وَيُقَالُ: أَذِنَ لَهُ بِالشَّيْءِ: إِذَا أَبَاحَهُ لَهُ، وَأَذِنَ لَهُ أَذَنًا: اسْتَمَعَ،

وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْإِذْنَ هُنَا بِمَعْنَى الْعِلْمِ ; أَيْ يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِعِلْمِهِ الَّذِي جَعَلَ بِهِ هَذَا الْقُرْآنَ سَبَبًا لِانْقِشَاعِ ظُلُمَاتِ الشِّرْكِ وَالضَّلَالِ مِنْ نَفْسِ

<<  <  ج: ص:  >  >>