رُسُلُهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: أَفِي اللهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ (١٤: ١٠) فَاللهُ تَعَالَى إِنَّمَا ذَكَّرَهُمْ عَلَى أَلْسِنَةِ رُسُلِهِ بِهَذَا الْإِقْرَارِ وَالْمَعْرِفَةِ، وَلَمْ يُذَكِّرْهُمْ قَطُّ بِإِقْرَارٍ سَابِقٍ عَلَى إِيجَادِهِمْ وَلَا أَقَامَ بِهِ عَلَيْهِمْ حُجَّةً. (الْعَاشِرُ) أَنَّهُ جَعَلَ هَذَا آيَةً، وَهِيَ الدَّلَالَةُ الْوَاضِحَةُ الْبَيِّنَةُ الْمُسْتَلْزِمَةُ لِمَدْلُولِهَا بِحَيْثُ لَا يَتَخَلَّفُ عَنْهَا الْمَدْلُولُ، وَهَذَا شَأْنُ آيَاتِ الرَّبِّ تَعَالَى فَإِنَّهَا أَدِلَّةٌ مُعِينَةٌ عَلَى مَطْلُوبٍ مُعَيَّنٍ مُسْتَلْزِمَةٌ لِلْعِلْمِ بِهِ فَقَالَ تَعَالَى: وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ أَيْ مِثْلُ هَذَا التَّفْصِيلِ وَالتَّبْيِينِ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ مِنَ الشِّرْكِ إِلَى التَّوْحِيدِ، وَمِنَ الْكُفْرِ إِلَى الْإِيمَانِ، وَهَذِهِ الْآيَاتُ الَّتِي فَصَّلَهَا هِيَ الَّتِي بَيَّنَهَا فِي كِتَابِهِ مِنْ أَنْوَاعِ مَخْلُوقَاتِهِ، وَهِيَ آيَاتٌ أُفُقِيَّةٌ وَنَفْسِيَّةٌ، آيَاتٌ فِي نُفُوسِهِمْ وَذَوَاتِهِمْ وَخُلُقِهِمْ، وَآيَاتٌ فِي الْأَقْطَارِ وَالنَّوَاحِي مِمَّا يُحْدِثُهُ الرَّبُّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، مِمَّا يَدُلُّ عَلَى وُجُودِهِ وَوَحْدَانِيَّتِهِ وَصِدْقِ رُسُلِهِ، وَعَلَى الْمَعَادِ وَالْقِيَامَةِ، وَمِنْ أَبْيَنِهَا مَا أَشْهَدَ بِهِ كُلَّ وَاحِدٍ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ أَنَّهُ
رَبُّهُ وَخَالِقُهُ وَمُبْدِعُهُ، وَأَنَّهُ مَرْبُوبٌ مَخْلُوقٌ مَصْنُوعٌ حَادِثٌ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ، وَمُحَالٌ أَنْ يَكُونَ حَدَثَ بِلَا مُحْدِثٍ أَوْ يَكُونَ هُوَ الْمُحْدِثُ لِنَفْسِهِ، فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُوجِدٍ أَوْجَدَهُ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ، وَهَذَا الْإِقْرَارُ وَالْمُشَاهَدَةُ فِطْرَةٌ فُطِرُوا عَلَيْهَا لَيْسَتْ بِمُكْتَسَبَةٍ، وَهَذِهِ الْآيَةُ وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ مُطَابَقَةٌ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ (٣٠: ٣٠، ٣١) وَمِنَ الْمُفَسِّرِينَ مَنْ لَمْ يَذْكُرْ إِلَّا هَذَا الْقَوْلَ فَقَطْ كَالزَّمَخْشَرِيِّ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَذْكُرْ إِلَّا الْقَوْلَ الْأَوَّلَ فَقَطْ. وَمِنْهُمْ مَنْ حَكَى الْقَوْلَيْنِ، كَابْنِ الْجَوْزِيِّ وَالْوَاحِدِيِّ وَالْمَاوَرْدِيِّ وَغَيْرِهِمْ قَالَ الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى الْجُرْجَانِيُّ: فَإِنِ اعْتَرَضَ مُعْتَرِضٌ فِي هَذَا الْفَصْلِ بِحَدِيثٍ يُرْوَى عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ اللهَ مَسَحَ ظَهْرَ آدَمَ فَأَخْرَجَ مِنْهُ ذُرِّيَّتِهِ وَأَخَذَ عَلَيْهِمُ الْعَهْدَ ثُمَّ رَدَّهُمْ فِي ظَهْرِهِ وَقَالَ إِنَّ هَذَا مَانَعٌ مِنْ جَوَازِ التَّأْوِيلِ الَّذِي ذَهَبْتَ إِلَيْهِ لِامْتِنَاعِ رَدِّهِمْ فِي الظَّهْرِ، إِنْ كَانَ أَخْذُ الْمِيثَاقِ عَلَيْهِمْ بَعْدَ الْبُلُوغِ وَتَمَامِ الْعَقْلِ قِيلَ لَهُ: إِنَّ مَعْنَى " ثُمَّ رَدَّهُمْ فِي ظَهْرِهِ " ثُمَّ يَرُدُّهُمْ فِي ظَهْرِهِ، كَمَا قُلْنَا إِنَّ مَعْنَى أَخَذَ رَبُّكَ: يَأْخُذُ رَبُّكَ فَيَكُونُ مَعْنَاهُ: ثُمَّ يَرُدُّهُمْ فِي ظَهْرِهِ بِوَفَاتِهِمْ: لِأَنَّهُمْ إِذَا مَاتُوا رُدُّوا إِلَى الْأَرْضِ لِلدَّفْنِ وَآدَمُ خُلِقَ مِنْهَا وَرُدَّ فِيهَا، فَإِذَا رُدُّوا فِيهَا فَقَدْ رُدُّوا فِي آدَمَ، وَفِي ظَهْرِهِ إِذْ كَانَ آدَمُ خُلِقَ مِنْهَا، وَفِيهَا رَدُّ بَعْضِ الشَّيْءِ مِنَ الشَّيْءِ، وَفِيمَا ذَهَبْتُمْ إِلَيْهِ مِنْ تَأْوِيلِ هَذَا الْحَدِيثِ عَلَى ظَاهِرِهِ تَفَاوُتٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا جَاءَ بِهِ الْقُرْآنُ فِي هَذَا الْمَعْنَى، إِلَّا أَنْ يُرَدَّ تَأْوِيلُهُ إِلَى مَا ذَكَرْنَا؛ لِأَنَّهُ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَلَمْ يَذْكُرْ آدَمَ فِي الْقِصَّةِ، إِنَّمَا هُوَ هَاهُنَا مُضَافٌ إِلَيْهِ لِتَعْرِيفِ ذُرِّيَّتِهِ أَنَّهُمْ أَوْلَادُهُ، وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ مَسَحَ ظَهْرَهُ فَلَا يُمْكِنُ رَدُّ مَا جَاءَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute