للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

(٢: ٦٣) وَلَمَّا كَانَتْ هَذِهِ الْآيَةُ وَنَظِيرُهَا فِي سُورَةٍ مَدَنِيَّةٍ خَاطَبَ بِالتَّذْكِيرِ بِهَذَا الْمِيثَاقِ فِيهَا أَهْلَ الْكِتَابِ فَإِنَّهُ مِيثَاقٌ أَخَذَهُ عَلَيْهِمْ بِالْإِيمَانِ بِهِ وَبِرُسُلِهِ، وَلَمَّا كَانَتْ آيَةُ الْأَعْرَافِ هَذِهِ فِي سُورَةٍ مَكِّيَّةٍ ذَكَرَ فِيهَا الْمِيثَاقَ وَالْإِشْهَادَ الْعَامَّ لِجَمِيعِ الْمُكَلَّفِينَ مِمَّنْ أَقَرُّوا بِرُبُوبِيَّتِهِ وَوَحْدَانِيَّتِهِ وَبُطْلَانِ الشِّرْكِ، وَهُوَ مِيثَاقٌ وَإِشْهَادٌ تَقُومُ بِهِ عَلَيْهِمُ الْحُجَّةُ، وَيَنْقَطِعُ بِهِ الْعُذْرُ، وَتَحِلُّ بِهِ الْعُقُوبَةُ، وَيَسْتَحَقُّ بِمُخَالَفَتِهِ الْإِهْلَاكُ، فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونُوا ذَاكِرِينَ لَهُ عَارِفِينَ بِهِ، وَذَلِكَ بِمَا فَطَرَهُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْإِقْرَارِ بِرُبُوبِيَّتِهِ، وَأَنَّهُ رَبُّهُمْ وَفَاطِرُهُمْ، وَأَنَّهُمْ مَخْلُوقُونَ مَرْبُوبُونَ، ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَيْهِمْ رُسُلَهُ يُذَكِّرُونَهُمْ بِمَا فِي فِطَرِهِمْ وَعُقُولِهِمْ، وَيُعَرِّفُونَهُمْ حَقَّهُ عَلَيْهِمْ وَأَمْرَهُ وَنَهْيَهُ وَوَعْدَهُ وَوَعِيدَهُ، وَنَظْمُ الْآيَةِ إِنَّمَا يَدُلُّ عَلَى هَذَا مِنْ وُجُوهٍ مُتَعَدِّدَةٍ: (أَحَدُهَا) أَنَّهُ قَالَ: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ وَلَمْ يَقُلْ آدَمَ وَبَنِي آدَمَ. (الثَّانِي) أَنَّهُ قَالَ: مِنْ ظُهُورِهِمْ وَلَمْ يَقُلْ ظَهْرَهُ، وَهَذَا بَدَلُ بَعْضٍ مِنْ كُلٍّ أَوْ بَدَلُ اشْتِمَالٍ وَهُوَ أَحْسَنُ (الثَّالِثُ) أَنَّهُ قَالَ (ذُرِّيَّتَهُمْ) وَلَمْ يَقُلْ ذُرِّيَّتَهُ. (الرَّابِعُ) أَنَّهُ قَالَ: وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَيْ: جَعَلَهُمْ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الشَّاهِدُ ذَاكِرًا لِمَا شَهِدَ بِهِ، وَهُوَ إِنَّمَا يَذْكُرُ شَهَادَتَهُ بَعْدَ خُرُوجِهِ إِلَى هَذِهِ الدَّارِ لَا يَذْكُرُ شَهَادَةً قَبْلَهَا، (الْخَامِسُ) أَنَّهُ سُبْحَانَهُ أَخْبَرَ أَنَّ حِكْمَةَ هَذَا الْإِشْهَادِ إِقَامَةُ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ لِئَلَّا يَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ: إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ وَالْحُجَّةُ إِنَّمَا قَامَتْ عَلَيْهِمْ بِالرُّسُلِ وَالْفِطْرَةِ الَّتِي فُطِرُوا عَلَيْهَا كَمَا قَالَ تَعَالَى: رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ (٤ ـ ١٦٥) : (السَّادِسُ) تَذْكِيرُهُمْ بِذَلِكَ لِئَلَّا يَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ: إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ مَعْلُومٌ أَنَّهُمْ غَافِلُونَ بِالْإِخْرَاجِ لَهُمْ مِنْ صُلْبِ آدَمَ كُلِّهِمْ، وَإِشْهَادِهِمْ

جَمِيعًا ذَلِكَ الْوَقْتَ، فَهَذَا لَا يَذْكُرُهُ أَحَدٌ مِنْهُمْ (السَّابِعُ) قَوْلُهُ تَعَالَى: أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ فَذَكَرَ حِكْمَتَيْنِ فِي هَذَا التَّعْرِيفِ وَالْإِشْهَادِ: (إِحْدَاهُمَا) أَلَّا يَدَّعُوا الْغَفْلَةَ. (وَالثَّانِيَةُ) أَلَّا يَدَّعُوا التَّقْلِيدَ فَالْغَافِلُ لَا شُعُورَ لَهُ، وَالْمُقَلِّدُ مُتَّبِعٌ فِي تَقْلِيدِهِ لِغَيْرِهِ. (الثَّامِنُ) قَوْلُهُ تَعَالَى: أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ أَيْ: لَوْ عَذَّبَهُمْ بِجُحُودِهِمْ وَشِرْكِهِمْ لَقَالُوا ذَلِكَ، وَهُوَ سُبْحَانُهُ إِنَّمَا يُهْلِكُهُمْ لِمُخَالَفَةِ رُسُلِهِ، وَتَكْذِيبِهِمْ، فَلَوْ أَهْلَكَهُمْ بِتَقْلِيدِ آبَائِهِمْ فِي شِرْكِهِمْ مِنْ غَيْرِ إِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ بِالرُّسُلِ لَأَهْلَكَهُمْ بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ أَوْ أَهْلَكَهُمْ مَعَ غَفْلَتِهِمْ عَنْ مَعْرِفَةِ بَطَلَانِ مَا كَانُوا عَلَيْهِ، وَقَدْ أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ، وَإِنَّمَا يُهْلِكُهُمْ بَعْدَ الْإِعْذَارِ وَالْإِنْذَارِ. (التَّاسِعُ) أَنَّهُ سُبْحَانَهُ أَشْهَدَ كُلَّ وَاحِدٍ عَلَى نَفْسِهِ أَنَّهُ رَبُّهُ وَخَالِقُهُ وَاحْتَجَّ عَلَيْهِمْ بِهَذَا الْإِشْهَادِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنْ كِتَابِهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (٢٩: ٦١) أَيْ: فَكَيْفَ يُصْرَفُونَ عَنِ التَّوْحِيدِ بَعْدَ هَذَا الْإِقْرَارِ مِنْهُمْ أَنَّ اللهَ رَبَّهُمْ وَخَالِقَهُمْ، وَهَذَا كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ، فَهَذِهِ هِيَ الْحُجَّةُ الَّتِي أَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِمَضْمُونِهَا، وَذَكَّرَتْهُمْ بِهَا

<<  <  ج: ص:  >  >>