للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

الْبَابِلِيِّينَ لِنُسْخَةِ مُوسَى الَّتِي كَتَبَهَا بِيَدِهِ، كَمَا ذَكَرْنَا آنِفًا وَتَقَدَّمَ مِنْ قَبْلُ مُفَصَّلًا. وَلَمْ يَكْتَفِ النَّصَارَى

بِهَذَا بَلْ وَضَعَ لَهُمْ أَحْبَارُ رُومِيَّةَ وَغَيْرُهُمْ مِنْ أَسَاقِفَتِهِمْ وَرُهْبَانِهِمْ شَرَائِعَ كَثِيرَةً فِي الْعِبَادَاتِ وَالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ يُخَالِفُ فِيهَا كُلُّ فَرِيقٍ مِنْهُمْ مَذْهَبَ الْآخَرِ.

يَقُولُ اللهُ تَعَالَى فِيمَا ذَكَرْنَاهُ آنِفًا عَنْ أَهْلِ الْمِلَّتَيْنِ بَعْدَ ذِكْرِ مَا أَخَذَهُ عَلَى أُمَّةِ مُوسَى مِنَ الْمِيثَاقِ مِنْ سُورَةِ الْمَائِدَةِ: فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (٥: ١٣ و١٤) وَفِي الْآيَتَيْنِ مِنَ الْحَقَائِقِ الَّتِي كَانَتْ مَجْهُولَةً، وَمِنْ أَخْبَارِ الْغَيْبِ عَنِ الْمَاضِي وَالْمُسْتَقْبَلِ، مَا يُعَدُّ مِنْ حُجَجِ الْقُرْآنِ عَلَى أَنَّهُ وَحْيٌ مِنَ اللهِ لَيْسَ لِلنَّبِيِّ الْأُمِّيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ مِنْهُ إِلَّا تَبْلِيغُهُ وَالْعَمَلُ بِهِ.

فَعُلِمَ مِنْ هَذَا أَنَّ كُلًّا مِنْهُمْ نَسِيَ حَظًّا عَظِيمًا مِمَّا ذَكَّرَهُمْ بِهِ نَبِيُّهُمْ، وَلَمْ يَعْمَلُوا بِالْبَعْضِ الْآخَرِ كُلِّهِ، بَلْ أَكْثَرُهُمْ عِبَادَاتُهُمْ وَمَا يُسَمَّى الطُّقُوسَ وَالنَّامُوسَ الْأَدَبِيَّ هُوَ مِنْ وَضْعِ أَحْبَارِهِمْ وَرُهْبَانِهِمْ كَمَا سَيَأْتِي قَرِيبًا فِي تَفْسِيرِ: اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ (٣١) وَإِنَّمَا كَانَ دِينُ الْحَقِّ عِنْدَهُمْ مَا جَاءَهُمْ بِهِ مُوسَى وَعِيسَى عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، وَلَوْ أَنَّهُمْ حَفِظُوهُ وَأَقَامُوهُ كَمَا أُنْزِلَ أَوْ دَانُوا بِمَا حَفِظُوا مِنْهُ دُونَ غَيْرِهِ لَهَدَاهُمْ إِلَى اتِّبَاعِ الْمُصْلِحِ الْأَعْظَمِ الَّذِي بَعَثَهُ اللهُ تَعَالَى مُكَمِّلًا لِدِينِهِ، وَلَا تَزَالُ بِشَارَاتُ أَنْبِيَائِهِمْ بِهِ مَحْفُوظَةً فِيمَا بَقِيَ لَهُمْ مِنْ كُتُبِهِمْ، وَهُوَ مُحَمَّدٌ خَاتَمُ النَّبِيِّينَ صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ.

فَقَوْلُهُ تَعَالَى: مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بَعْدَ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الصِّفَاتِ السَّلْبِيَّةِ بَيَانٌ لِلْمُرَادِ مِنَ الْمُتَّصِفِينَ بِهَا، وَالْمُرَادُ بِالْكِتَابِ جِنْسُ الْكِتَابِ الْإِلَهِيِّ الَّذِي يَشْمَلُ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَزَبُورَ دَاوُدَ وَغَيْرَهَا، وَلَكِنْ لُقِّبَ " أَهْلُ الْكِتَابِ " وَ " الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ " وَإِنْ كَانَ لَفْظُهُ عَامًّا خُصَّ بِهِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى ; لِأَنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ كَانُوا مُخَالِطِينَ وَمُجَاوِرِينَ لِلْأُمَّةِ الْعَرَبِيَّةِ وَمَعْرُوفِينَ عِنْدَهَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى مُخَاطِبًا لِمُشْرِكِي الْعَرَبِ: أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ (٦: ١٥٦) وَفِي نُصُوصِ الْقُرْآنِ الصَّرِيحَةِ أَنَّ اللهَ تَعَالَى:

أَرْسَلَ رُسُلًا فِي جَمِيعِ الْأُمَمِ يَأْمُرُونَهُمْ بِعِبَادَتِهِ تَعَالَى وَحْدَهُ، وَبِاجْتِنَابِ الطَّاغُوتِ، وَيُنْذِرُونَهُمْ يَوْمَ الْجَزَاءِ، وَأَنَّ مِنْهُمْ مَنْ قَصَّهُ عَلَى خَاتَمِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ فِي كِتَابِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَقْصُصْ عَلَيْهِ، وَمِنَ الْمَعْقُولِ أَنْ يَكُونَ أُولُو الْحَضَارَةِ مِنْهُمْ كَالصِّينِيِّينَ وَالْهُنُودِ وَالْفُرْسِ وَالْمِصْرِيِّينَ وَالْيُونَانِ قَدْ كَتَبُوا كُلُّهُمْ أَوْ بَعْضُهُمْ مَا أُوحِيَ إِلَى رُسُلِهِمْ فَضَاعَ بِطُولِ الْأَمَدِ أَوْ خُلِطَ بِغَيْرِهِ وَلَمْ يَعُدْ أَصْلُهُ مَعْرُوفًا، وَإِذَا كَانَ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى قَدْ كَانَ مِنْ أُمِّ كُتُبِهِمْ

<<  <  ج: ص:  >  >>