للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

بَلْ حَرَّفُوهُمَا وَأَتَوْا بِأَحْكَامٍ مِنْ قِبَلِ أَنْفُسِهِمْ، وَقَلَّدُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ فَاتَّخَذُوهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ اهـ.

وَأَمَّا كَوْنُهُمْ لَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ، فَمَعْنَاهُ عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ فِيمَا قَبْلَهُ أَنَّهُمْ لَا يَدِينُونَ اللهَ بِدِينِهِ الْحَقِّ الْكَامِلِ الْأَخِيرِ، الْمُكَمِّلِ وَالْمُبَيِّنِ لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنْ قَبْلُ، وَالنَّاسِخِ لِمَا لَا يَصْلُحُ لِلْبَشَرِ مِنْهُ فِيمَا بَعْدُ، وَهُوَ الْإِسْلَامُ. يُقَالُ: دَانَ دِينَ الْإِسْلَامِ أَوْ غَيْرَهُ وَدَانَ بِهِ. وَهُوَ الْأَصْلُ، وَمَعْنَاهُ عَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي: أَنَّ الدِّينَ الَّذِي يَتَقَلَّدُهُ كُلٌّ مِنْهُمْ إِنَّمَا هُوَ دِينٌ تَقْلِيدِيٌّ وَضَعَهُ لَهُمْ أَحْبَارُهُمْ وَأَسَاقِفَتُهُمْ بِآرَائِهِمُ الِاجْتِهَادِيَّةِ وَأَهْوَائِهِمُ الْمَذْهَبِيَّةِ، لَا دِينُ اللهِ الْحَقُّ الَّذِي أَوْحَاهُ إِلَى مُوسَى وَعِيسَى عَلَيْهِمَا السَّلَامُ. ذَلِكَ بِأَنَّ الْيَهُودَ لَمْ يَحْفَظُوا مَا اسْتُحْفِظُوا مِنَ التَّوْرَاةِ الَّتِي كَتَبَهَا مُوسَى، وَكَانَ يَحْكُمُ بِهَا هُوَ وَالنَّبِيُّونَ مِنْ بَعْدِهِ، وَيُخَالِفُهُمُ الْفَاسِقُونَ النَّاقِضُونَ لِعَهْدِهِ الَّذِي أَخَذَهُ عَلَيْهِمْ قَبْلَ مَوْتِهِ، إِلَى أَنْ عَاقَبَهُمُ اللهُ تَعَالَى بِتَسْلِيطِ الْبَابِلِيِّينَ عَلَيْهِمْ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ،

وَأَحْرَقُوا الْهَيْكَلَ وَمَا فِيهِ مِنْ تِلْكَ الْأَسْفَارِ، وَسَبَقُوا بَقِيَّةَ السَّيْفِ مِنْهُمْ، وَأَجْلَوْهُمْ عَنْ وَطَنِهِمْ إِلَى أَرْضِ مُسْتَعْبِدِيهِمْ، فَدَانُوا لِشَرِيعَةٍ غَيْرِ شَرِيعَتِهِمْ، وَلَمَّا أَعْتَقُوهُمْ مِنَ الرِّقِّ وَأَعَادُوهُمْ إِلَى تِلْكَ الْأَرْضِ، وَكَانُوا قَدْ فَقَدُوا نَصَّ التَّوْرَاةِ، وَإِنَّمَا حَفِظُوا بَعْضَهَا دُونَ بَعْضٍ، كَتَبُوا مَا حَفِظُوا مِنْ شَرِيعَةِ الرَّبِّ، مَمْزُوجًا بِمَا دَانُوا مِنْ شَرِيعَةِ مَلِكِ بَابِلَ كَمَا أَمَرَ كَاهِنُهُمْ عِزْرَا (عُزَيْرًا) ثُمَّ إِنَّهُمْ حَرَّفُوا وَبَدَّلُوا، وَلَمْ يُقِيمُوهَا كَمَا أُمِرُوا.

وَكَذَلِكَ النَّصَارَى لَمْ يَحْفَظُوا كُلَّ مَا بَلَّغَهُمْ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنَ الْعَقَائِدِ وَالْوَصَايَا وَالْأَحْكَامِ الْقَلِيلَةِ النَّاسِخَةِ لِبَعْضِ تَشْدِيدَاتِ التَّوْرَاةِ، وَهُوَ دِينُ اللهِ الْحَقُّ، بَلْ كَتَبَ كَثِيرُونَ مِنْهُمْ تَوَارِيخَ لَهُ، وَأَوْدَعَهَا كُلُّ كَاتِبٍ مِنْهُمْ مَا عَرَفَهُ مِنْ ذَلِكَ وَمِنْ غَيْرِهِ، فَجَاءَتِ الْمَجَامِعُ الرَّسْمِيَّةُ بَعْدَ ثَلَاثَةِ قُرُونٍ، فَاعْتَمَدَتْ أَرْبَعَةَ أَنَاجِيلَ مِنْ زُهَاءِ سَبْعِينَ إِنْجِيلًا رَفَضَتْهَا وَسَمَّتْهَا [أَبُو كَرَيفٍ] أَيْ غَيْرُ قَانُونِيَّةٍ، وَقَدْ وَصَلَ إِلَيْنَا إِنْجِيلُ الْقِدِّيسِ بَرْنَابَا مِنْهَا، وَهُوَ مِنْ أَصْحَابِ الْمَسِيحِ وَرُسُلِهِ لِهِدَايَةِ النَّاسِ، فَإِذَا فِيهِ مِنْ أُصُولِ التَّوْحِيدِ وَالصِّفَاتِ الْإِلَهِيَّةِ وَالْحِكَمِ وَالْمَوَاعِظِ الْعَالِيَةِ مَا يَفُوقُ مَا فِي الْأَرْبَعَةِ الْقَانُونِيَّةِ.

ثُمَّ إِنَّهُمْ نَقَضُوا شَرِيعَةَ التَّوْرَاةِ مِنْ بَعْدِهِ، وَأَخَذُوا بِتَعَالِيمِ بُولُسَ كَمَا تَقَدَّمَ، وَهُوَ فَيْلَسُوفٌ يَهُودِيٌّ تَنَصَّرَ بَعْدَ الْمَسِيحِ، وَقَبِلَ تَنَصُّرَهُ الْحَوَارِيُّونَ الَّذِينَ يُسَمُّونَهُمُ (الرُّسُلَ) بِشَفَاعَةِ بَرْنَابَا ; لِأَنَّهُ كَانَ عَدُوًّا لَهُمْ، مَعَ أَنَّهُمْ يَنْقِلُونَ عَنِ الْمَسِيحِ أَنَّهُ قَالَ: مَا جِئْتُ لِأَنْقُضَ النَّامُوسَ، وَإِنَّمَا جِئْتُ لِأُتَمِّمَ " وَالنَّامُوسُ: هُوَ شَرِيعَةُ مُوسَى، وَهَذَا مُوَافِقٌ لِمَا حَكَاهُ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ بِقَوْلِهِ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ: وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ إِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (٣: ٥٠، ٥١) وَإِنَّمَا قَالَ: لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ أَيِ: الشَّرِيعَةِ ; لِأَنَّ بَعْضَهَا كَانَ فُقِدَ بِإِحْرَاقِ

<<  <  ج: ص:  >  >>