للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

تَقَدَّمَ مِثْلُ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَبَيْنَ مَا هُنَا وَمَا هُنَالِكَ فُرُوقٌ فِي التَّعْبِيرِ نُبَيِّنُهَا هُنَا فَنَقُولُ:.

(١، ٢) قَالَ تَعَالَى هُنَا: وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ لِأَنَّ الْقِصَّةَ خِطَابٌ وُجِّهَ أَوَّلًا إِلَى أَهْلِ مَكَّةَ فَالْحِكَايَةُ فِيهِ عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ حِكَايَةٌ عَنْ غَائِبٍ، وَالْأَصْلِ أَنْ يَذْكُرَ ضَمِيرُهُ فِيهِ ; وَلِذَلِكَ قَالَ: (لَهُمْ) وَفِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ: وَإِذْ قُلْنَا (٢: ٥٨) وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ ; إِذِ الْمَعْلُومُ أَنَّ الْقَائِلَ هُوَ اللهُ تَعَالَى، وَقَدْ رُوعِيَ هُنَالِكَ السِّيَاقُ، وَفِي خِطَابِ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ قَبْلَهَا: وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ (٢: ٥٠) ، وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى. . . . (٢: ٥١) فَنَاسَبَ أَنْ يَقُولَ: وَإِذْ قُلْنَا وَلَمْ يَقُلْ فِيهَا " لَكُمْ " كَمَا قَالَ هُنَا: (لَهُمْ) ; لِأَنَّ الْقَوْلَ كَانَ لِأَجْدَادِ الْمُخَاطَبِينَ مِنْ أُلُوفِ السِّنِينَ لَا لَهُمْ أَنْفُسِهِمْ، وَلَمْ يَقُلْ: " لَهُمْ " أَيْضًا ; لِأَنَّ السِّيَاقَ لَمْ يَكُنْ حِكَايَةً عَنْ غَائِبٍ مَجْهُولٍ يَحْتَاجُ إِلَى تَعْيِينِهِ، بَلْ هُوَ تَذْكِيرُ الْخَلَفِ بِمَا تَقُومُ بِهِ عَلَيْهِمُ الْحُجَّةُ مِنْ شُئُونِ السَّلَفِ ; لِأَنَّهُمْ وَارِثُو أَخْلَاقَهُمْ وَغَرَائِزَهُمْ وَعَادَاتَهُمْ، فَهُوَ إِذَنْ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الْخَلَفِ الْحَاضِرِ وَالسَّلَفِ الْغَابِرِ، وَزِيَادَةُ " لَهُمْ " تَلْصِقُهُ بِالْغَائِبِ وَحْدَهُ فَتَكُونُ حِكَايَتُهُ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ كَحِكَايَتِهِ لِعَرَبِ مَكَّةَ وَغَيْرِهِمْ، فَتَأَمَّلْ! .

(٣) قَالَ هَاهُنَا: اسْكُنُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ وَفِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ: (ادْخُلُوا) وَالْفَائِدَةُ هَاهُنَا أَتَمُّ ; لِأَنَّ السُّكْنَى تَسْتَلْزِمُ الدُّخُولَ وَلَا عَكْسَ. وَتَظْهَرُ فَائِدَةُ اخْتِلَافِ التَّعْبِيرِ فِي الْفِعْلَيْنِ بِمَا يَلِيهَا مِنَ الْعَطْفِ عَلَيْهِمَا وَهُوَ:.

(٤، ٥) قَالَ هَاهُنَا: وَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ وَفِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا (٢: ٥٨) فَعَطَفَ الْأَمْرَ بِالْأَكْلِ هُنَالِكَ بِـ " الْفَاءِ " ; لِأَنَّهُ بَدْءَهُ يَكُونُ عَقِبَ الدُّخُولِ كَأَكْلِ الْفَوَاكِهِ وَالثَّمَرَاتِ الَّتِي كَانَتْ تُوجَدُ فِي كُلِّ نَاحِيَةٍ مِنَ الْقَرْيَةِ - وَالسُّكْنَى أَمْرٌ مُمْتَدٌّ يَكُونُ الْأَكْلُ فِي أَثْنَائِهِ لَا عَقِبَهُ، بَلْ لَا يُقَالُ عَقِبَ السُّكْنَى إِلَّا فِيمَنْ يَتْرُكُ هَذِهِ السُّكْنَى ; وَلِذَلِكَ عُطِفَ عَلَيْهِ هُنَا بِـ " الْوَاوِ " الَّتِي تُفِيدُ الْجَمْعَ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ مُطْلَقًا بِلَا مُلَاحَظَةِ تَرْتِيبٍ وَلَا تَعْقِيبٍ، وَقَدْ وُصِفَ هُنَالِكَ الْأَكْلُ بِالرَّغَدِ وَهُوَ الْوَاسِعُ الْهَنِيُّ، وَالتَّبْشِيرُ بِهِ يُنَاسِبُ حَالَ الدُّخُولِ، إِذِ الْأَمْرُ لَدَى الدَّاخِلِ مَجْهُولٌ.

(٦) قَالَ هَاهُنَا: وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقَدَّمَ هُنَالِكَ مَا أَخَّرَ

هُنَا، وَأَخَّرَ مَا قَدَّمَهُ أَيْ فِي الذِّكْرِ، وَهُوَ لَا يَدُلُّ عَلَى طَلَبِ تَرْتِيبٍ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ ; لِأَنَّ الْعَطْفَ فِيهِ بِالْوَاوِ الدَّالَّةِ عَلَى طَلَبِ الْأَمْرَيْنِ مُطْلَقًا، وَلَكِنْ لَوْ كَانَ التَّعْبِيرُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ وَاحِدًا لَفُهِمَ مِنْهُ أَنَّ الْمُقَدَّمَ فِي الذَّكَرِ أَرْجَحُ أَوْ أَهَمُّ وَلَوْ فِي الْجُمْلَةِ كَمَا هِيَ الْقَاعِدَةُ فِي التَّقْدِيمِ لِذَاتِهِ. فَكَانَ الِاخْتِلَافُ دَالًّا عَلَى عَدَمِ الْفَرْقِ بَيْنَ تَقْدِيمِ هَذَا وَتَأْخِيرِ ذَلِكَ وَبَيْنَ عَكْسِهِ ; لِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُمَا لَا يَقْتَضِي تَرْتِيبًا بَيْنَ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ كَلِمَةُ (حِطَّةٌ) وَهُوَ الدُّعَاءُ بِأَنْ تُحَطَّ عَنْهُمْ أَوْزَارَهُمْ

<<  <  ج: ص:  >  >>