للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

(يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا) (٦: ١١٢) وَاسْتَشْهَدْنَا عَلَيْهِ بِخِدَاعِ الشَّيْطَانِ لِآدَمَ وَحَوَّاءَ فِي مَسْأَلَتِنَا وَقِيلَ: دَلَّاهُمَا حَالَ كَوْنِهِمَا مُتَلَبِّسِينَ بِغُرُورٍ، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُمَا اغْتَرَّا وَانْخَدَعَا بِقَسَمِهِ وَصَدَّقَا قَوْلَهُ لِاعْتِقَادِهِمَا أَنَّ أَحَدًا لَا يَحْلِفُ بِاللهِ كَاذِبًا، وَاسْتَنْكَرَ بَعْضُهُمْ أَنْ يَكُونَا صَدَّقَاهُ وَاسْتَكْبَرَ أَنْ يَقَعَ ذَلِكَ مِنْهُمَا، وَزَعَمَ أَنَّ تَصْدِيقَهُ كُفْرٌ، وَرَجَّحَ هَؤُلَاءِ أَنْ يَكُونَ الْغُرُورُ بِتَزْيِينِ الشَّهْوَةِ، فَإِنَّ مِنْ غَرَائِزِ الْبَشَرِ حُبَّ التَّجْرِبَةِ وَاسْتِكْشَافَ الْمَجْهُولِ، وَالرَّغْبَةُ فِي الْمَمْنُوعِ، فَجَاءَ الْوَسْوَاسُ نَافِخًا فِي نَارِ هَذِهِ الشَّهَوَاتِ الْغَرِيزِيَّةِ مُذَكِّيًا لَهَا، مُثِيرًا لِلنَّفْسِ بِهَا إِلَى مُخَالَفَةِ النَّهْيِ، حَتَّى نَسِيَ آدَمُ عَهْدَ رَبِّهِ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ مِنَ الْعَزْمِ مَا يَصْرِفُهُ عَنْ مُتَابَعَةِ امْرَأَتِهِ، وَيَعْتَصِمُ بِهِ مِنْ تَأْثِيرِ شَيْطَانِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ طَهَ: (وَلَقَدْ عَهِدَنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا) (٢٠: ١١٥) وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي الصَّحِيحِ " وَلَوْلَا حَوَّاءُ لَمْ تَخُنْ أُنْثَى زَوْجَهَا " بِنَاءً عَلَى أَنَّهَا هِيَ الَّتِي زَيَّنَتْ لَهُ الْأَكْلَ مِنَ الشَّجَرَةِ، وَالْمُرَادُ أَنَّ الْمَرْأَةَ فُطِرَتْ عَلَى تَزْيِينِ مَا تَشْتَهِيهِ لِلرَّجُلِ وَلَوْ بِالْخِيَانَةِ لَهُ، وَقِيلَ: إِنَّ ذَلِكَ بِنَزْعِ الْعِرْقِ أَيِ الْوِرَاثَةِ.

(فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ) أَيْ فَلَمَّا ذَاقَا ثَمَرَةَ الشَّجَرَةِ ظَهَرَتْ لِكُلٍّ مِنْهُمَا سَوْءَتُهُ وَسَوْءَةُ صَاحِبِهِ وَكَانَتْ مُوَارَاةً عَنْهُمَا، قِيلَ: بِلِبَاسٍ مِنَ الظُّفْرِ كَانَ يَسْتُرُهُمَا فَسَقَطَ عَنْهُمَا، وَبَقِيَتْ لَهُ بَقِيَّةٌ فِي رُءُوسِ أَصَابِعِهِمَا، قِيلَ: بِلِبَاسٍ مَجْهُولٍ كَانَ اللهُ تَعَالَى أَلْبَسَهُمَا إِيَّاهُ، وَقِيلَ: بِنُورِ كَانَ يَحْجُبُهُمَا، وَلَا دَلِيلَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ وَلَمْ يَصِحَّ بِهِ أَثَرٌ عَنِ

الْمَعْصُومِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْأَقْرَبُ عِنْدِي أَنَّ مَعْنَى ظُهُورِهَا لَهُمَا أَنَّ شَهْوَةَ التَّنَاسُلِ دَبَّتْ فِيهِمَا بِتَأْثِيرِ الْأَكْلِ مِنَ الشَّجَرَةِ، فَنَبَّهَتْهُمَا إِلَى مَا كَانَ خَفِيًّا عَنْهُمَا مِنْ أَمْرِهَا، فَخَجِلَا مِنْ ظُهُورِهَا، وَشَعَرَا بِالْحَاجَةِ إِلَى سِتْرِهَا، وَشَرَعَا يَخْصِفَانِ أَيْ يَلْزَقَانِ أَوْ يَضَعَانِ وَيَرْبِطَانِ عَلَى أَبْدَانِهِمَا مِنْ وَرَقِ أَشْجَارِ الْجَنَّةِ الْعَرِيضِ مَا يَسْتُرُهَا - مِنْ خَصْفِ الْإِسْكَافِيِّ النَّعْلَ إِذَا وَضَعَ عَلَيْهَا مِثْلَهَا - فَالْمُوَارَاةُ كَانَتْ مَعْنَوِيَّةً، فَإِنْ كَانَتْ حِسِّيَّةً فَمَا ثَمَّ إِلَّا الشَّعْرُ سَاتِرٌ خِلْقِيٌّ، وَقَدْ تُظْهِرُ الشَّهْوَةُ مَا أَخْفَاهُ الشَّعْرُ، وَإِنْ لَمْ يَسْقُطْ بِتَأْثِيرِ ذَلِكَ الْأَكْلِ. وَيَدُلُّ عَلَى كُلٍّ مِنْ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ فِطْرَةُ الْإِنْسَانِ الَّتِي نَزَلَتِ الْآيَاتُ فِي شَرْحِ حَقِيقَتِهَا وَغَرَائِزِهَا وَاللهُ أَعْلَمُ بِمُرَادِهِ، وَخَلْقِهِ وَقَدَرِهِ أَصْدَقُ شَاهِدٍ لِكِتَابِهِ.

(وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ) الِاسْتِفْهَامُ هُنَا لِلْعِتَابِ وَالتَّوْبِيخِ، أَيْ وَقَالَ لَهُمَا رَبُّهُمَا الَّذِي يُرَبِّيهِمَا فِي طَوْرِ الْمُخَالَفَةِ وَالْعِصْيَانِ، كَمَا يُرَبِّيهِمَا فِي حَالِ الطَّاعَةِ وَالْإِذْعَانِ: أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ أَنْ تَقْرَبَاهَا، وَأَقُلْ لَكُمَا: إِنَّ الشَّيْطَانَ عَدُوٌّ لَكُمَا دُونَ غَيْرِكُمَا مِنَ الْخَلْقِ، بَيِّنُ الْعَدَاوَةِ ظَاهِرُهَا فَلَا تُطِيعَاهُ يُخْرِجُكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ الْعَيْشُ

<<  <  ج: ص:  >  >>