للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وَالْخِطَابُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ) لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُرَادُ غَيْرُهُ، عَلَى حَدِّ قَوْلِهِمْ: إِيَّاكَ أَعْنِي وَاسْمَعِي يَا جَارَةُ، وَقِيلَ: لِكُلِّ مُخَاطَبٍ، أَيْ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِّينَ فِي ذَلِكَ. عَلَى أَنَّ نَهْيَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الشَّكِّ فِي كَوْنِ أَهْلِ الْكِتَابِ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ بِالْحَقِّ مَقْرُونًا بِإِخْبَارِهِ بِهِ لَا يَقْتَضِي جَوَازَ شَكِّهِ فِيهِ بَعْدَ هَذَا الْإِخْبَارِ، فَإِنْ كَانَ يَشُكُّ فِيهِ قَبْلَهُ فَلَا ضَرَرَ.

(وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا) الْكَلِمَةُ تُطْلَقُ عَلَى الْجُمْلَةِ وَالطَّائِفَةِ مِنَ الْقَوْلِ فِي مَعْنًى وَاحِدٍ أَوْ غَرَضٍ وَاحِدٍ طَالَ أَوْ قَصُرَ، فَإِذَا أَلْقَى أَفْرَادٌ خُطَبًا أَوْ كَتَبُوا مَقَالَاتٍ فِي مَوْضُوعٍ مَا، قِيلَ فِي كُلِّ خُطْبَةٍ وَكُلِّ مَقَالَةٍ: هَذِهِ كَلِمَةُ فُلَانٍ، وَرُوِيَ أَنَّ

الْعَرَبَ كَانَتْ تُسَمِّي الْقَصِيدَةَ مِنَ الشِّعْرِ كَلِمَةً ; لِأَنَّ الْقَصِيدَةَ تُقَالُ فِي غَرَضٍ وَاحِدٍ وَإِنِ اشْتَمَلَتْ عَلَى مَعَانٍ كَثِيرَةٍ، وَتُسَمَّى جُمْلَةُ " لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ " كَلِمَةَ التَّوْحِيدِ، وَمِنْ هُنَا قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالْكَلِمَةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْقُرْآنُ. وَهُوَ جَائِزٌ لُغَةً وَلَكِنَّهُ غَيْرُ ظَاهِرٍ مَعْنًى، وَإِنَّمَا الظَّاهِرُ الْمُتَبَادِرُ بِقَرِينَةِ السِّيَاقِ أَنَّ الْكَلِمَةَ هُنَا مِنْ قَبِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) (١١: ١١٩) وَقَوْلِهِ: (وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا) (٧: ١٣٧) الْآيَةَ فَمَعْنَى الْجُمْلَةِ: وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ أَيُّهَا الرَّسُولُ فِيمَا وَعَدَكَ بِهِ مِنْ نَصْرِكَ، وَمَا أَوْعَدَ بِهِ هَؤُلَاءِ الْمُسْتَهْزِئِينَ بِالْقُرْآنِ الْمُقْتَرِحِينَ لِلْآيَاتِ وَأَمْثَالِهِمْ مِنْ مُعَانِدِي قَوْمِكَ الْمُسْتَكْبِرِينَ عَنِ الْإِيمَانِ بِكَ مِنْ خُذْلَانِهِمْ وَهَلَاكِهِمْ، كَمَا تَمَّتْ مِنْ قَبْلُ فِي الرُّسُلِ وَأَعْدَائِهِمْ مِنْ قَبْلِكَ، وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ) (٣٧: ١٧١ ١٧٣) وَمَا فِي مَعْنَاهَا مِنْ عَامٍّ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ) (٤٠: ٥١) وَخَاصٍّ كَقَوْلِهِ لِرَسُولِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: (إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ) (١٥: ٩٥) أَمَّا تَمَامُهَا صِدْقًا فَهُوَ وُقُوعُ مَضْمُونِهَا مِنْ حَيْثُ كَوْنِهَا خَبَرًا، وَأَمَّا تَمَامُهَا عَدْلًا فَمِنْ حَيْثُ كَوْنِهَا جَزَاءً لِلْكَافِرِينَ الْمُعَانِدِينَ لِلْحَقِّ بِمَا يَسْتَحِقُّونَ، وَلِلْمُؤْمِنِينَ الْمُهْتَدِينَ بِمَا يَسْتَحِقُّونَ، وَإِنْ كَانُوا بِمُقْتَضَى الْفَضْلِ يُزَادُونَ، وَإِذَا كَانَتْ هَذِهِ الْآيَةُ نَزَلَتْ بِمَكَّةَ قَبْلَ نَصْرِ اللهِ تَعَالَى نَبِيَّهُ عَلَى طُغَاةِ قَوْمِهِ فِي بَدْرٍ وَغَيْرِهَا، فَالْفِعْلُ الْمَاضِي فِيهَا " تَمَّتْ " بِمَعْنَى الْمُسْتَقْبَلِ، فَهُوَ لِتَحَقُّقِ وُقُوعِهِ كَأَنَّهُ وَقَعَ، وَهَذَا مِنْ ضُرُوبِ الْمُبَالَغَةِ الْبَلِيغَةِ. وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْخَبَرِ هُنَا لَازِمُهُ وَهُوَ تَأْكِيدُ مَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَاتُ مِنْ تَسْلِيَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ كُفْرِ هَؤُلَاءِ الْمُعَانِدِينَ وَإِيذَائِهِمْ لَهُ وَلِأَصْحَابِهِ وَإِيئَاسِ الطَّامِعِينَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فِي إِيمَانِهِمْ بِإِيتَائِهِمُ الْآيَاتِ الْمُقْتَرَحَةَ، كَأَنَّهُ يَقُولُ: كَمَا أَنَّ سُنَّتِي مَضَتْ بِأَنْ يَكُونَ لِلرُّسُلِ أَعْدَاءٌ مِنْ شَيَاطِينِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ، قَدْ تَمَّتْ كَلِمَتِي بِنَصْرِ الْمُرْسَلِينَ، وَخُذْلَانِ هَؤُلَاءِ الطُّغَاةِ الْمُفْسِدِينَ.

(لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ) كَمَا أَنَّهُ لَا تَبْدِيلَ لِسُنَنِهِ (سُنَّةَ اللهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلًا) (٣٣: ٦٢)

<<  <  ج: ص:  >  >>