للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وَالتَّبْدِيلُ التَّغْيِيرُ بِالْبَدَلِ. وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ

تَعْلِيلٌ لِمَا قَبْلَهَا، وَالْمَعْنَى أَنَّ كَلِمَةَ اللهِ تَعَالَى فِي نَصْرِكَ أَيُّهَا الرَّسُولُ وَخُذْلَانِ أَعْدَائِكَ قَدْ تَمَّتْ وَأَصْبَحَ نُفُوذُهَا حَتْمًا لَا مَرَدَّ لَهُ ; لِأَنَّ كَلِمَاتِ اللهِ الَّتِي هِيَ مِنْ أَفْرَادِهَا لَا مُبَدِّلَ لَهَا ; إِذْ لَا يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ مِنْ خَلْقِهِ - وَكُلُّ مَا عَدَاهُ فَهُوَ مِنْ خَلْقِهِ - أَنْ يُزِيلَ كَلِمَةً مِنْ كَلِمَاتِهِ بِكَلِمَةٍ أُخْرَى تُخَالِفُهَا، أَوْ يَمْنَعَ صِدْقَهَا عَلَى مَنْ وَرَدَتْ فِيهِمْ، كَأَنْ يَجْعَلَ الْوَعْدَ وَعِيدًا أَوِ الْوَعِيدَ وَعْدًا أَوْ يَصْرِفَهُمَا عَنِ الْمَوْعُودِ بِالثَّوَابِ أَوِ الْمُوْعَدِ بِالْعِقَابِ إِلَى غَيْرِهِمَا أَوْ يَحُولَ دُونَ وُقُوعِهِمَا أَلْبَتَةَ.

فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ بَعْضَ الْمُتَكَلِّمِينَ جَوَّزَ تَخَلُّفَ الْوَعِيدِ دُونَ الْوَعْدِ لِأَنَّهُ فَضْلٌ وَإِحْسَانٌ، قُلْنَا: لَمْ يُجَوِّزْ أَحَدٌ مِنْ مُحَقِّقِي أَهْلِ الْحَقِّ تَخَلُّفَ الْوَعِيدِ مُطْلَقًا، بَلْ صَرَّحُوا بِأَنَّ مِنْ أُصُولِ الْعَقِيدَةِ أَنَّ نُفُوذَ الْوَعِيدِ فِي الْكُفَّارِ وَفِي طَائِفَةٍ مِنْ عُصَاةِ الْمُؤْمِنِينَ حَقٌّ، وَإِنَّمَا قِيلَ: يَتَخَلَّفُ شُمُولُ الْوَعِيدِ لِجَمِيعِ الْعُصَاةِ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ إِطْلَاقُ بَعْضِ النُّصُوصِ، وَلَنَا أَنْ نَقُولَ: إِنَّ هَذَا لَيْسَ بِتَخَلُّفٍ فَيُقَالُ: إِنَّهُ تَبْدِيلٌ لِكَلِمَاتِ اللهِ سُبْحَانَهُ وَتَكْذِيبٌ لَهَا، فَإِنَّهُ - تَعَالَى - لَمْ يُرِدْ بِتِلْكَ الْإِطْلَاقَاتِ الشُّمُولَ الْعَامَّ لِجَمِيعِ أَفْرَادِ مَنْ وَرَدَتْ فِيهِمْ تِلْكَ النُّصُوصُ، لِأَنَّهُ بَيَّنَ فِي نُصُوصٍ أُخْرَى أَنَّهُ يَعْفُوَ عَنْ بَعْضِ الذُّنُوبِ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ مُقْتَرِفِيهَا وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ، وَهُوَ يَعْلَمُ مَنْ أَرَادَ الْمَغْفِرَةَ لَهُمْ وَمَنْ أَرَادَ تَعْذِيبَهُمْ وَلَا يُبَدِّلُ كَلَامَهُ فِي أَحَدٍ مِنْهُمَا، وَأُبْهِمَ ذَلِكَ عَلَيْنَا لِنَرْجُوَهُ دَائِمًا وَلَا يُوقِعُنَا الْعَمَلُ الصَّالِحُ فِي الْغُرُورِ وَالْأَمْنِ مِنْ عَذَابِهِ فَنُقَصِّرُ، وَنَخَافُهُ دَائِمًا وَلَا يُوقِعُنَا ارْتِكَابُ الذَّنْبِ فِي الْيَأْسِ مِنْ رَحْمَتِهِ فَنَهْلَكُ، وَقَدْ أَحْسَنَ أَبُو الْحَسَنِ الشَّاذِلِيُّ فِي قَوْلِهِ فِي هَذَا الْمَقَامِ: وَقَدْ أَبْهَمْتَ الْأَمْرَ عَلَيْنَا لِنَرْجُوَ وَنَخَافَ فَأَمِّنْ خَوْفَنَا وَلَا تُخَيِّبْ رَجَاءَنَا.

فَإِنْ قِيلَ: أَلَيْسَ الشُّفَعَاءُ يُؤَثِّرُونَ فِي إِرَادَتِهِ تَعَالَى فَيَحْمِلُونَهُ عَلَى الْعَفْوِ عَنِ الْمَشْفُوعِ لَهُمْ وَالْمَغْفِرَةِ لَهُمْ؟ قُلْنَا: كَلَّا إِنَّ الْمَخْلُوقَ لَا يَقْدِرُ عَلَى التَّأْثِيرِ فِي صِفَاتِ الْخَالِقِ الْأَزَلِيَّةِ الْكَامِلَةِ، وَقَدْ نَطَقَتِ الْآيَاتُ بِأَنَّ الشَّفَاعَةَ لِلَّهِ جَمِيعًا، لَيْسَ لِأَحَدٍ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ، وَلَا يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ أَنْ يَشْفَعَ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ، وَهُوَ لَا يَأْذَنُ إِلَّا لِمَنْ تَعَلَّقَتْ مَشِيئَتُهُ وَعِلْمُهُ فِي الْأَزَلِ بِالْإِذْنِ لَهُمْ (وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ) (٢١: ٢٨) فَيَكُونُ ذَلِكَ إِظْهَارَ كَرَامَةٍ وَجَاهٍ لَهُمْ عِنْدَهُ، لَا إِحْدَاثَ تَأْثِيرٍ لِلْحَادِثِ فِي صِفَاتِ الْقَدِيمِ وَسُلْطَانٍ

لَهُ عَلَيْهَا، تَعَالَى الله عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَحْقِيقُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مِرَارًا.

فَإِنْ قِيلَ: أَلَا يَدُلُّ قَوْلُهُ: (لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ) عَلَى اسْتِحَالَةِ التَّحْرِيفِ أَوِ التَّبْدِيلِ فِي الْكُتُبِ الْإِلَهِيَّةِ أَيْ فِي لَفْظِهَا وَعِبَارَتِهَا، كَاسْتِحَالَةِ التَّبْدِيلِ فِي صِدْقِهَا وَنُفُوذِهَا؟ قُلْنَا: إِنَّمَا وَرَدَ السِّيَاقُ وَالنَّصُّ فِي صِدْقِهَا وَعَدْلِهَا فِي لَفْظِهَا، وَقَدْ أَثْبَتَ اللهُ فِي كِتَابِهِ تَحْرِيفَ أَهْلِ الْكِتَابِ قَبْلَنَا لِكَلَامِهِ وَنِسْيَانَهُمْ حَظًّا مِنْهُ، وَمَا كَفَلَ تَعَالَى حِفْظَ كِتَابٍ مِنْ كُتُبِهِ بِنَصِّهِ إِلَّا هَذَا الْقُرْآنَ الْمَجِيدَ الَّذِي قَالَ فِيهِ: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) (١٥: ٩) وَظَهَرَ صِدْقُ كَفَالَتِهِ بِتَسْخِيرِ الْأُلُوفِ الْكَثِيرَةِ فِي كُلِّ عَصْرٍ لِحِفْظِهِ عَنْ ظَهْرِ قَلْبٍ، وَلِكِتَابَةِ النُّسَخِ الَّتِي

<<  <  ج: ص:  >  >>