مُعَانِدُونَ جَاحِدُونَ عَلَى عِلْمٍ، ثُمَّ أَعْلَمَهُ بِأَنَّ الْآيَاتِ لَا تُؤَثِّرُ فِي الْمُعَانِدِ وَلَا تُرْجِعُ الْجَاحِدَ عَنْ غَيِّهِ، وَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى فَرْضِيَّةِ اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ فِي الصَّلَاةِ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا هَلْ هِيَ شَرْطٌ لِصِحَّتِهَا أَمْ لَا. وَفِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى بِأَصْحَابِهِ إِلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ بِالِاجْتِهَادِ ثُمَّ ظَهَرَ لَهُمْ خَطَؤُهُمْ وَلَمْ يُعِيدُوا، وَإِنَّمَا يَدُلُّ هَذَا - إِنْ صَحَّ - عَلَى أَنَّ خَطَأَ الِاجْتِهَادِ فِيهَا مَغْفُورٌ. وَالصَّحِيحُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ بَعْدَ الْهِجْرَةِ سِتَّةَ عَشَرَ شَهْرًا، وَأَنَّ النَّسْخَ بِنُزُولِ هَذِهِ الْآيَاتِ كَانَ فِي رَجَبٍ مِنَ السَّنَةِ الثَّانِيَةِ، وَحَدِيثُ الْبَرَاءِ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ أَنَّهُ صَلَّى إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ سِتَّةَ عَشَرَ أَوْ سَبْعَةَ عَشَرَ شَهْرًا بِالشَّكِّ، وَرِوَايَةُ ١٦ عِنْدَ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ بِدُونِ شَكٍّ فَهِيَ الصَّوَابُ.
(وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ) أَيْ: وَتَاللهِ لَئِنْ جِئْتَهُمْ بِكُلِّ آيَةٍ عَلَى نُبُوَّتِكَ وَكُلِّ حُجَّةٍ عَلَى صِدْقِكَ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ فَضْلًا عَنْ مِلَّتِكَ، فَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ وَلَا إِعْرَاضُهُمْ وَلَا تَحْسَبَنَّ الْآيَاتِ وَالدَّلَائِلَ مُقْنِعَةً أَوْ صَارِفَةً لَهُمْ عَنْ عِنَادِهِمْ، فَهُمْ قَوْمٌ مُقَلِّدُونَ لَا نَظَرَ لَهُمْ وَلَا اسْتِدْلَالَ. وَكَمَا أَيْأَسَهُ مِنَ اتِّبَاعِهِمْ قِبْلَتَهُ أَيْأَسَهُمْ مِنَ اتِّبَاعِهِ قِبْلَتَهُمْ، فَقَالَ: (وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ) فَإِنَّكَ الْآنَ عَلَى قِبْلَةِ إِبْرَاهِيمَ الَّذِي يُجِلُّونَهُ جَمِيعًا، وَلَا يَخْتَلِفُ فِي حَقِّيَّةِ مِلَّتِهِ أَحَدٌ مِنْهُمْ، فَهِيَ الْأَجْدَرُ بِالِاجْتِمَاعِ عَلَيْهَا، وَتَرْكِ الْخِلَافِ إِلَيْهَا، فَإِذَا كَانَ أَتْبَاعُ إِبْرَاهِيمَ لَا يُزَحْزِحُهُمْ عَنْ تَعَصُّبِهِمْ لِمَا أَلِفُوا، وَعِنَادِهِمْ فِيمَا اخْتَلَفُوا، وَإِذَا كَانَ التَّقْلِيدُ يَحُولُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ النَّظَرِ فِي حَقِيقَةِ مَعْنَى الْقِبْلَةِ، وَكَوْنِ الْجِهَاتِ كُلِّهَا لِلَّهِ تَعَالَى، وَأَنَّ الْفَائِدَةَ فِيهَا الِاجْتِمَاعُ دُونَ الِافْتِرَاقِ فَأَيُّ دَلِيلٍ أَمْ أَيَّةُ آيَةٍ تُرْجِعُهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمْ؟ وَأَيَّةُ فَائِدَةٍ تُرَجَّى مِنْ مُوَافَقَتِكَ إِيَّاهُمْ عَلَيْهَا؟ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ اخْتَلَفُوا هُمْ فِي الْقِبْلَةِ فَجَعَلَ النَّصَارَى لَهُمْ قِبْلَةً غَيْرَ قِبْلَةِ الْيَهُودِ الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا عِيسَى بَعْدَ مُوسَى؟ ! (وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ) لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمْ قَدْ جَمُدَ بِالتَّقْلِيدِ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ، وَالْمُقَلِّدُ لَا يَنْظُرُ فِي آيَةٍ وَلَا دَلِيلٍ، وَلَا فِي فَائِدَةِ مَا هُوَ فِيهِ، وَالْمُقَارَنَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ فَهُوَ أَعْمَى لَا يُبْصِرُ، أَصَمُّ لَا يَسْمَعُ، أَغْلَفُ الْقَلْبِ لَا
يَعْقِلُ (وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ) أَيْ: وَلَئِنْ فُرِضَ أَنْ تَتَّبِعَ مَا يَهْوَوْنَهُ مِنَ الصَّلَاةِ إِلَى قِبْلَتِهِمْ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ اجْتِهَادًا مِنْكَ تَقْصِدُ بِهِ اسْتِمَالَتَهُمْ إِلَى دِينِكَ، مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ الْحَقُّ الْيَقِينُ بِالنَّصِّ الْمَانِعِ مِنَ الِاجْتِهَادِ، وَالْعِلْمِ الَّذِي لَا مَجَالَ مَعَهُ لِلظَّنِّ، إِنَّكَ إِذْ تَفْعَلُ هَذَا فَرْضًا - وَمَا أَنْتَ بِفَاعِلِهِ - تَكُونُ مِنْ جَمَاعَةِ الظَّالِمِينَ (وَحَاشَاكَ) وَالْكَلَامُ مِنْ بَابِ (إِيَّاكِ أَعْنِي وَاسْمَعِي يَا جَارَةُ) وَبَيَانُهُ أَنَّنَا قَدْ أَقَمْنَا لَكَ مَسْأَلَةَ الْقِبْلَةِ عَلَى قَاعِدَةِ الْعِلْمِ الَّذِي عَرَفْتَ بِهِ أَنَّ نِسْبَةَ الْجِهَاتِ إِلَى اللهِ تَعَالَى وَاحِدَةٌ، وَأَنَّ جُمُودَ أَهْلِ الْكِتَابِ عَلَى مَا هُمْ فِيهِ إِنَّمَا جَاءَهُمْ مِنَ التَّقْلِيدِ وَحِرْمَانِ أَنْفُسِهِمْ مِنَ النَّظَرِ، وَأَنَّ طَعْنَهُمْ فِيكَ وَفِيمَا جِئْتَ بِهِ مِنْ أَمْرِ الْقِبْلَةِ وَغَيْرِهِ لَيْسَ إِلَّا جُحُودًا وَمُعَانِدَةً لَكَ مَعَ عِلْمِهِمْ بِأَنَّكَ النَّبِيُّ الْمَوْعُودُ بِهِ فِي كُتُبِهِمْ يَأْتِي مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ. فَبَعْدَ هَذَا الْعِلْمِ كُلِّهِ لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute