للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

مِنْ أَتْبَاعِكَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يُفَكِّرَ فِي أَهْوَاءِ الْقَوْمِ اسْتِمَالَةً لَهُمْ ; إِذْ لَا مَحَلَّ لِهَذِهِ الِاسْتِمَالَةِ، وَالْحَقُّ قَوِيٌّ بِذَاتِهِ، وَغَنِيٌّ بِمَنْ ثَبَتَ عَلَيْهِ، وَمَنْ عَدَلَ عَنْهُ - مُجَارَاةً لِأَهْلِ الْأَهْوَاءِ لِمَا يَرْجُو مِنْ فَائِدَتِهِمْ أَوِ اتِّقَاءِ مَضَرَّتِهِمْ - فَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ، وَظَالِمٌ لِمَنْ يَسْلُكُ بِهِمْ هَذَا السَّبِيلَ الْجَائِرَ.

(الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ) هَذَا الْخِطَابُ بِهَذَا الْوَعِيدِ لِأَعْلَى النَّاسِ مَقَامًا عِنْدَ اللهِ تَعَالَى هُوَ أَشَدُّ وَعِيدٍ لِغَيْرِهِ مِمَّنْ يَتَّبِعُ الْهَوَى، وَيُحَاوِلُ اسْتِرْضَاءَ النَّاسِ بِمُجَارَاتِهِمْ عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْبَاطِلِ ; فَإِنَّهُ أَفْرَدَهُ بِالْخِطَابِ مَعَ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ أُمَّتُهُ ; إِذْ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَتَّبِعَ هُوَ أَهْوَاءَهُمْ، أَوْ أَنْ يُجَارِيَهُمْ عَلَى شَيْءٍ نَهَاهُ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ، لِيَتَنَبَّهَ الْغَافِلُ وَيَعْلَمَ الْمُؤْمِنُونَ أَنَّ اتِّبَاعَ أَهْوَاءِ النَّاسِ وَلَوْ لِغَرَضٍ صَحِيحٍ هُوَ مِنَ الظُّلْمِ الْعَظِيمِ الَّذِي يَقْطَعُ طَرِيقَ الْحَقِّ، وَيُرْدِي النَّاسَ فِي مَهَاوِي الْبَاطِلِ، كَأَنَّهُ يَقُولُ: إِنَّ هَذَا ذَنْبٌ عَظِيمٌ لَا يُتَسَامَحُ فِيهِ مَعَ أَحَدٍ، حَتَّى لَوْ فُرِضَ وُقُوعُهُ مِنْ أَكْرَمِ النَّاسِ عَلَى اللهِ تَعَالَى لَسَجَّلَ عَلَيْهِ الظُّلْمَ، وَجَعَلَهُ مِنْ أَهْلِهِ الَّذِينَ صَارَ وَصْفًا لَازِمًا لَهُمْ (وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ) (٢: ٢٧٠) فَكَيْفَ حَالُ مَنْ لَيْسَ لَهُ مَا يُقَارِبُ مَكَانَتَهُ عِنْدَ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ؟ .

نَقْرَأُ هَذَا التَّشْدِيدَ وَالْوَعِيدَ، وَنَسْمَعُهُ مِنَ الْقَارِئِينَ، وَلَا نَزْدَجِرُ عَنِ اتِّبَاعِ أَهْوَاءِ النَّاسِ وَمُجَارَاتِهِمْ عَلَى بِدَعِهِمْ وَضَلَالَاتِهِمْ، حَتَّى إِنَّكَ تَرَى الَّذِينَ يَشْكُونَ مِنْ هَذِهِ الْبِدَعِ وَالْأَهْوَاءِ وَيَعْتَرِفُونَ بِبُعْدِهَا عَنِ الدِّينِ يُجَارُونَ أَهْلَهَا عَلَيْهَا وَيُمَازِجُونَهُمْ

فِيهَا، وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ فِي ذَلِكَ قَالُوا: ((مَاذَا نَعْمَلُ؟ مَا فِي الْيَدِ حِيلَةٌ)) ((الْعَامَّةُ عَمًى)) ٠ ((آخِرُ زَمَانٍ)) وَأَمْثَالَ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ هِيَ جُيُوشُ الْبَاطِلِ تُؤَيِّدُهُ وَتُمَكِّنُهُ فِي الْأَرْضِ، حَتَّى يَحُلَّ بِأَهْلِهِ الْبَلَاءُ وَيَكُونُوا مِنَ الْهَالِكِينَ.

وَأَعْجَبُ مِنْ هَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ الْإِمَامُ أَنَّكَ تَرَى هَؤُلَاءِ الْمُعْتَرِفِينَ بِهَذِهِ الْبِدَعِ وَالْأَهْوَاءِ يُنْكِرُونَ عَلَى مُنْكِرِهَا، وَيُسَفِّهُونَ رَأْيَهُ وَيَعُدُّونَهُ عَابِثًا أَوْ مَجْنُونًا، إِذْ يُحَاوِلُ مَا لَا فَائِدَةَ فِيهِ عِنْدَهُمْ، فَهُمْ يَعْرِفُونَ الْمُنْكَرَ وَيُنْكِرُونَ الْمَعْرُوفَ، وَيَدَّعُونَ مَعَ ذَلِكَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ مِنَ الْعِلْمِ وَالدِّينِ.

وَأَعْجَبُ مِنْ هَذَا الْأَعْجَبِ أَنَّ مِنْهُمْ مَنْ يَرَى أَنَّ إِزَالَةَ هَذِهِ الْمُنْكَرَاتِ وَالْبِدَعِ، وَمُقَاوَمَةَ هَذِهِ الْأَهْوَاءِ وَالْفِتَنِ جِنَايَةٌ عَلَى الدِّينِ، وَيَحْتَجُّ عَلَى هَذَا بِأَنَّ الْعَامَّةَ تَحْسَبُهَا مِنَ الدِّينِ، فَإِذَا أَنْكَرَهَا الْعُلَمَاءُ عَلَيْهِمْ تَزُولُ ثِقَتُهُمْ بِالدِّينِ كُلِّهِ لَا بِهَا خَاصَّةً! ! وَبِأَنَّهَا لَا تَخْلُو مِنْ خَيْرٍ يُقَارِنُهَا كَالذِّكْرِ الَّذِي يَكُونُ فِي الْمَوَاسِمِ وَالِاحْتِفَالَاتِ الَّتِي تُسَمَّى بِالْمَوَالِدِ وَكُلُّهَا بِدَعٌ وَمُنْكَرَاتٌ، حَتَّى إِنَّ الذِّكْرَ الَّذِي يَكُونُ فِيهَا لَيْسَ مِنَ الْمَعْرُوفِ فِي الشَّرْعِ! ! وَالسَّبَبُ الصَّحِيحُ فِي هَذَا كُلِّهِ هُوَ مُحَاوَلَةُ إِرْضَاءِ النَّاسِ بِمُجَارَاتِهِمْ عَلَى أَهْوَائِهِمْ وَتَأْوِيلِهَا لَهُمْ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمَا سَكَتَ الْعَالِمُونَ بِكَوْنِهَا بِدَعًا وَمُنْكَرَاتٍ عَلَيْهَا، إِنَّهُمْ سَكَتُوا بِالثَّمَنِ (اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللهِ ثَمَنًا قَلِيلًا) (٩: ٩) وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ يُظْهِرُونَ التَّعَجُّبَ مِنْ جُحُودِ أَهْلِ الْكِتَابِ لِلنَّبِيِّ وَالْقُرْآنِ، وَمَا كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ جُحُودًا، وَلَا أَقْوَى جُمُودًا.

هَذَا إِيمَاءٌ إِلَى اتِّبَاعِ الْعُلَمَاءِ أَهْوَاءَ الْعَامَّةِ بَعْدَ مَا جَاءَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَمَا نَزَلَ عَلَيْهِمْ فِي الْكِتَابِ مِنَ الْوَعِيدِ عَلَيْهِ، وَلَوْ شَرَحَ شَارِحٌ اتِّبَاعَهُمْ لِأَهْوَاءِ السَّلَاطِينِ وَالْأُمَرَاءِ وَالْوُجَهَاءِ وَالْأَغْنِيَاءِ،

<<  <  ج: ص:  >  >>