للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وَفَلَاسِفَتِهِمْ وَمُؤَرِّخِيهِمْ فَإِنَّهُمْ يُذْعِنُونَ بِأَنَّهُ لُبَابُ الْحَقِيقَةِ، بَلْ هُمْ يُصَرِّحُونَ بِأَنَّهُ لَوْلَا غَلَبَةُ الضَّلَالِ وَالْفِسْقِ وَالْكُفْرِ عَلَيْهِمْ فِي عَصْرِ ظُهُورِ الْإِسْلَامِ لَمَا انْتَشَرَ ذَلِكَ الِانْتِشَارَ السَّرِيعَ.

وَلَكِنْ وُجِدَ فِينَا مَنْ طَمَسَ هَذِهِ الْمَزِيَّةَ وَجَعَلُوا كُلَّ مَا يُنْكِرُهُ الْقُرْآنُ مِنْ فَسَادِ الْأُمَمِ مِنْ قَبِيلِ هَجْوِ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ، وَكُلَّ مَا يَحْمَدُهُ هُوَ خَاصٌّ بِالْمُسْلِمِينَ، حَتَّى كَأَنَّهُ شِعْرٌ لَا يُقْصَدُ مِنْهُ إِلَّا مَدْحُ أُنَاسٍ وَذَمُّ آخَرِينَ، وَبِهَذَا يُنَفِّرُونَ غَيْرَ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الْإِسْلَامِ، وَيَحُولُونَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَبَيْنَ الْعِبْرَةِ وَالِاتِّعَاظِ وَفَهْمِ الْحَقَائِقِ. وَلِهَذَا الْبَحْثِ بَقِيَّةٌ تَأْتِي فِي تَفْسِيرِ لَيْسُوا سَوَاءً إِلَخْ، وَاسْتَدَلَّ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ بِالْآيَةِ عَلَى حُجِّيَّةِ الْإِجْمَاعِ الْمَعْرُوفِ فِي الْأُصُولِ فَحَمَّلَهَا مَالَا تَحْمِلُ.

ثُمَّ قَالَ - تَعَالَى - فِي أُولَئِكَ الْفَاسِقِينَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ: لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى

أَيْ إِنَّهُمْ يَقْدِرُونَ عَلَى إِيقَاعِ الضَّرَرِ بِكُمْ وَلَكِنْ يُؤْذُونَكُمْ بِنَحْوِ الْكَلَامِ الْقَبِيحِ كَالْخَوْضِ فِي النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أَوْ إِلَّا ضَرَرًا خَفِيفًا لَيْسَ لَهُ كَبِيرُ تَأْثِيرٍ وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ تَوْلِيَةُ الْأَدْبَارِ: كِنَايَةٌ عَنِ الِانْهِزَامِ لِأَنَّ الْمُنْهَزِمَ يُحَوِّلُ ظَهْرَهُ إِلَى جِهَةِ مُقَاتِلِهِ وَيَسْتَدْبِرُهُ فِي هَرَبِهِ مِنْهُ، فَيَكُونُ دُبُرُهُ أَيْ قَفَاهُ إِلَى جِهَةِ وَجْهِ مَنِ انْهَزَمَ هُوَ مِنْهُ. ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ عَلَيْكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ، أَوْ ثُمَّ إِنَّهُمْ لَا يُنْصَرُونَ عَلَيْكُمْ قَطُّ مَا دَامُوا عَلَى فِسْقِهِمْ وَدُمْتُمْ عَلَى خَيْرِيَّتِكُمْ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ. وَعَلَى هَذَا تَكُونُ الْجُمْلَةُ إِخْبَارِيَّةً مُسْتَقِلَّةً لَا تَدْخُلُ فِي جَوَابِ الشَّرْطِ وَلِذَلِكَ وَرَدَتْ بِنُونِ الرَّفْعِ. وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ ثَلَاثُ بِشَارَاتٍ مِنَ الْإِخْبَارِ بِالْغَيْبِ، وَكُلُّهَا تَحَقَّقَتْ وَصَدَقَ اللهُ وَعْدَهُ.

وَقَدْ أَوْرَدَ " الرَّازِيُّ " عَلَى الْوَعْدِ بِأَنَّهُمْ لَا يُنْصَرُونَ: أَنَّهُ يَصْدُقُ فِي الْيَهُودِ دُونَ النَّصَارَى أَيْ إِنَّ الْيَهُودَ هُمُ الَّذِينَ لَمْ يُنْصَرُوا عَلَى الْمُسْلِمِينَ بَعْدَ مَا كَانَ مِنِ انْكِسَارِهِمْ فِي الْحِجَازِ، وَأَمَّا النَّصَارَى فَقَدْ كَانَتِ الْحَرْبُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُسْلِمِينَ بَعْدَ الصَّدْرِ الْأَوَّلِ سِجَالًا ثُمَّ صَارُوا هُمُ الْمَنْصُورِينَ، وَأَجَابَ (الرَّازِيُّ) عَنْ ذَلِكَ: بِأَنَّ الْآيَةَ خَاصَّةٌ بِالْيَهُودِ، نَعَمْ وَمَا قُلْنَاهُ يَصْلُحُ جَوَابًا مُطْلَقًا، وَيُؤَيِّدُهُ تَقْيِيدُهُ - تَعَالَى - نَصْرَ الْمُؤْمِنِينَ بِنَصْرِهِمْ إِيَّاهُ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ [٤٧: ٧] وَبِالْقِيَامِ بِمَا أَمَرَ بِهِ وَمِنْهُ الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ، كَمَا وَرَدَ فِي سُورَةِ الْحَجِّ وَذَكَرْنَاهُ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ السَّابِقَةِ. وَمِثْلُهُ وَصْفُ الْمُؤْمِنِينَ الْمُجَاهِدِينَ فِي سُورَةِ التَّوْبَةِ بِقَوْلِهِ: الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللهِ [٩: ١١٢] وَقَدْ شَرَحْنَا هَذَا الْمَعْنَى غَيْرَ مَرَّةٍ وَسَنُفَصِّلُهُ - إِنْ شَاءَ اللهُ - فِي مُقَدِّمَةِ التَّفْسِيرِ تَفْصِيلًا.

ثُمَّ قَالَ جَلَّ شَأْنُهُ: ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ ثُقِفُوا: وُجِدُوا. وَالذِّلَّةُ بِكَسْرِ الذَّالِ: ضَرْبٌ مَخْصُوصٌ مِنَ الذُّلِّ لِأَنَّهَا مِنَ الصِّيَغِ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى الْهَيْئَةِ، قِيلَ: الْمُرَادُ بِهَا هُنَا الْجِزْيَةُ، وَقِيلَ: مَا يُحْدِثُهُ فِي النَّفْسِ مِنْ فَقْدِ السُّلْطَةِ وَهَذَا هُوَ

<<  <  ج: ص:  >  >>