أَهْلُ الْكِتَابِ بِمَا آمَنْتُمْ بِهِ كَمَا آمَنْتُمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَلَكِنْ آمَنَ بَعْضُهُمْ فَمِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ كَعَبْدِ اللهِ بْنِ سَلَامٍ وَرَهْطِهِ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّجَاشِيِّ وَرَهْطِهِ مِنَ النَّصَارَى وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ عَنْ دِينِهِمْ أَيْ خَارِجُونَ مِنْهُ، أَوْ فَاسِقُونَ فِي دِينِهِمْ غَيْرُ عُدُولٍ فِيهِ فَلَا حَصَّلُوا الْإِسْلَامَ وَهُوَ أَكْمَلُ الْأَدْيَانِ وَلَا تَمَسَّكُوا بِمَا عِنْدَهُمْ، أَوْ أَكْثَرُهُمْ مُتَمَرِّدُونَ فِي الْكُفْرِ. هَكَذَا اخْتَلَفَ تَعْبِيرُهُمْ فَيُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ أَحَدٌ مُتَمَسِّكٌ بِدِينِهِ مُخْلِصًا فِيهِ، عَامِلًا بِأَوَامِرِهِ وَنَوَاهِيهِ، وَهَذَا غَيْرُ مَعْقُولٍ وَلَا مُوَافِقٌ لِمَا عُرِفَ مِنْ طَبِيعَةِ الْبَشَرِ مِنْ مَيْلِ أُنَاسٍ مِنْهُمْ إِلَى الْغُلُوِّ فِي الدِّينِ وَاعْتِدَالِ أُنَاسٍ آخَرِينَ وَمَيْلِ غَيْرِ هَؤُلَاءِ وَأُولَئِكَ إِلَى الْفُسُوقِ وَالْعِصْيَانِ، فَمَا مِنْ أَهْلِ دِينٍ إِلَّا وَفِيهِمُ الْفِرَقُ الثَّلَاثُ، وَإِنَّمَا يَكْثُرُ الِاسْتِمْسَاكُ بِالدِّينِ فِي أَوَائِلِ ظُهُورِهِ، وَيَكْثُرُ الْفِسْقُ بَعْدَ طُولِ الْأَمَدِ عَلَيْهِ. قَالَ - تَعَالَى -: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينِ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينِ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ [٥٧: ١٦] فَمَاعَدَا هَذَا الْكَثِيرُ هُمُ الْمُسْتَمْسِكُونَ بِدِينِهِمْ، وَالْقُرْآنُ لَمْ يَحْكُمْ عَلَى أُمَّةٍ بِالضَّلَالِ وَالْفِسْقِ بِنَصٍّ عَامٍّ يَسْتَغْرِقُ جَمِيعَ الْأَفْرَادِ، بَلْ يُعَبِّرُ تَارَةً بِالْكَثِيرِ وَتَارَةً بِالْأَكْثَرِ، وَإِذَا أَطْلَقَ أَدَاةَ الْعُمُومِ يَسْتَثْنِي بِمِثْلِ قَوْلِهِ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ: ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ [٢: ٨٣] وَقَوْلِهِ فِيهِمْ: فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا [٤: ١٥٥] أَوْ يَحْكُمُ عَلَى الْبَعْضِ ابْتِدَاءً كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ:
وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ [٣: ٧٥] الْآيَةَ. وَقَالَ - تَعَالَى - فِيهِمْ: وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ [٧: ١٥٩] وَقَالَ فِيهِمْ وَفِي النَّصَارَى: مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ [٥: ٦٦] وَسَيَأْتِي تَفْسِيرُهَا، فَقَدْ أَثْبَتَ لِبَعْضِهِمُ الْإِيمَانَ وَالِاقْتِصَادَ أَيِ الِاعْتِدَالَ فِي الدِّينِ وَالْهِدَايَةَ بِالْحَقِّ وَالْعَدْلِ، وَقَالَ: لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ [٤: ١٦٢] فَجَعَلَ أَهْلَ الْعِلْمِ الَّذِينَ يَفْهَمُونَ الدَّلَائِلَ وَالْبَرَاهِينَ، وَأَهْلَ الْإِيمَانِ الْمُخْلِصِينَ الَّذِينَ يَتَحَرَّوْنَ الْحَقَّ هُمُ الَّذِينَ يَقْبَلُونَ دَعْوَةَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِقُوَّةِ اسْتِعْدَادِهِمْ. وَلَكِنَّ الْمُفَسِّرَ الْمُتَشَبِّعَ بِأَحْوَالِ أُمَّتِهِ الَّذِي لَمْ يَخْتَبِرْ غَيْرَهَا وَلَمْ يَكُنْ عَارِفًا بِطَبَائِعِ الْمِلَلِ وَحَقَائِقِ الِاجْتِمَاعِ الْبَشَرِيِّ لَا يَكَادُ يَتَصَوَّرُ أَنَّ الْإِيمَانَ وَالْإِخْلَاصَ وَالتَّقْوَى تُوجَدُ عِنْدَ غَيْرِ أَهْلِ مِلَّتِهِ، فَهُوَ يُطَبِّقُ الْآيَاتِ عَلَى اخْتِبَارِهِ وَاعْتِقَادِهِ، وَقَدْ تَذَكَّرْتُ الْآنَ مَا قَالَتْهُ تِلْكَ الْمَرْأَةُ الْإِفْرِنْجِيَّةُ لِلْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ فِي مَدِينَةِ جِنِيفَ عَاصِمَةِ سِوِيسْرَا، وَكَانَتِ امْرَأَةً عَالِمَةً تَقِيَّةً رَاقَبَتْ سَيْرَ الْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ فِي مَصِيفِهِ هُنَاكَ لِغَرَابَةِ زِيِّهِ وَدِينِهِ، ثُمَّ قَالَتْ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ: إِنَّنِي لَمْ أَكُنْ أَظُنُّ وَلَا يَخْطُرُ فِي بَالِي قَبْلَ مَعْرِفَتِكَ أَنَّ الْقَدَاسَةَ وَالتَّقْوَى فِي غَيْرِ الْمَسِيحِيَّةِ.
وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ: أَنَّ الْقُرْآنَ يُبَيِّنُ حَقَائِقَ مَا عَلَيْهِ الْأُمَمُ فِي عَقَائِدِهَا وَأَخْلَاقِهَا وَأَعْمَالِهَا، يَزِنُ ذَلِكَ بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ، وَالدِّقَّةُ الَّتِي نَرَاهَا فِي تَحَرِّيهِ الْحَقِيقَةَ لَمْ نَعْهَدْهَا فِي كِتَابِ عَالِمٍ وَلَا مُؤَرِّخٍ، فَإِذَا نَحْنُ جَمَعْنَا مَا حَكَمَ بِهِ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ وَغَيْرِهِمْ وَعَرَضْنَاهُ عَلَى عُلَمَائِهِمْ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute