للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

الَّذِينَ كَانُوا يَدَّعُونَ الْإِيمَانَ وَلَا يَقْدِرُونَ عَلَى ادِّعَاءِ الْقِيَامِ بِالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ ; لِأَنَّهُمْ كَانُوا فِي مَجْمُوعِهِمْ لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ، وَادِّعَاءُ مَا تُكَذِّبُهُ الْمُشَاهَدَةُ يَفْضَحُ صَاحِبَهُ، فَقَدَّمَ ذِكْرَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ لِأَنَّهُمْ لَا مَجَالَ لَهُمْ فِي دَعْوَى مُشَارَكَةِ الْمُؤْمِنِينَ فِيهِ، وَأَخَّرَ ذِكْرَ الْإِيمَانِ الَّذِي يَدَّعُونَهُ لِيُرَتِّبَ عَلَيْهِ بَيَانَ أَنَّهُ إِيمَانٌ غَيْرُ صَحِيحٍ ; لِأَنَّهُ لَمْ يَأْتِ بِثَمَرِ الْإِيمَانِ الصَّحِيحِ ; وَلِذَلِكَ قَالَ:

وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ أَيْ لَوْ آمَنُوا الْإِيمَانَ الصَّحِيحَ الَّذِي يَسْتَوْلِي عَلَى النُّفُوسِ وَيَمْلِكُ أَزِمَّةَ الْأَهْوَاءِ فَيَكُونُ مَصْدَرًا لِأَحَاسِنِ الْأَعْمَالِ كَمَا تُؤْمِنُونَ أَنْتُمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِمَّا يَدَّعُونَ مِنَ الْإِيمَانِ التَّقْلِيدِيِّ الَّذِي لَا يَزَعُ عَنِ الشُّرُورِ، وَلَا يَرْفَعُ صَاحِبَهُ إِلَى مَعَالِي الْأُمُورِ، وَبِهَذَا التَّفْسِيرِ يَنْدَفِعُ سُؤَالٌ ثَالِثٌ لِلرَّازِيِّ وَهُوَ: لِمَ اكْتُفِيَ بِذِكْرِ الْإِيمَانِ بِاللهِ وَلَمْ يَذْكُرِ الْإِيمَانَ بِالنُّبُوَّةِ؟ فَإِذَا كَانَ الْكَلَامُ تَعْرِيضًا بِأَنَّ الْقَوْمَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ إِيمَانًا صَحِيحًا فَأَيُّ حَاجَةٍ إِلَى ذِكْرِ الْإِيمَانِ بِغَيْرِهِ، عَلَى أَنَّهُ لَوْ ذَكَرَ غَيْرَ ذَلِكَ لَكَانَ الْمُنَاسِبَ أَنْ يَذْكُرَ الْإِيمَانَ بِرَسُولِهِ وَهُوَ مَحَلُّ خِلَافٍ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ، أَوِ الْإِيمَانَ بِالرُّسُلِ كَافَّةً وَأَهْلُ الْكِتَابِ اشْتَهَرُوا بِذَلِكَ، وَجَوَابُ الرَّازِيِّ تَكَلُّفٌ ظَاهِرٌ. ثُمَّ صَرَّحَ بَعْدَ التَّعْرِيضِ بِأَنَّهُمْ لَوْ آمَنُوا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَلَمْ يَقُلْ لَوْ آمَنُوا بِاللهِ بَلْ أَطْلَقَ لِيَدُلَّ عَلَى أَنَّ إِيمَانَهُمْ بِكُلِّ مَا يُؤْمِنُونَ بِهِ غَيْرُ صَحِيحٍ ; لِأَنَّهُ لَمْ يَأْتِ بِثَمَرَاتِ الْإِيمَانِ الصَّحِيحِ كَمَا قُلْنَا آنِفًا.

وَجَعَلَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ هَذِهِ الْجُمْلَةَ مُتَعَلِّقَةً بِمَجْمُوعِ الْكَلَامِ السَّابِقِ فَقَالَ: إِنَّهُ بَعْدَ مَا نَهَانَا - سُبْحَانَهُ - عَنِ التَّفَرُّقِ وَالِاخْتِلَافِ كَمَا تَفَرَّقَ أَهْلُ الْكِتَابِ بَعْدَ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ، وَأَمَرَنَا بِالدَّعْوَةِ إِلَى الْخَيْرِ وَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ. وَذَكَرَ أَنَّنَا خَيْرُ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ بِهَذَا أَوْ بِالْإِيمَانِ الْحَقِيقِيِّ الَّذِي يَقْتَرِنُ بِالْإِذْعَانِ النَّفْسِيِّ وَالِاتِّبَاعِ الْعَمَلِيِّ - نَاسَبَ أَنْ يَذْكُرَ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ الْمُخْتَلِفِينَ لَيْسُوا مُؤْمِنِينَ هَذَا الْإِيمَانَ الْخَالِصَ الَّذِي يُحِبُّهُ اللهُ - تَعَالَى - وَيَرْضَاهُ، وَهُوَ الَّذِي يَكُونُ الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ ثَمَرَةً مِنْ ثِمَارِهِ، وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ أَثَرًا مِنْ آثَارِهِ، فَعَلِمْنَا أَنَّ الْمُرَادَ بِهَذَا الْإِيمَانِ

شَيْءٌ أَخَصُّ مِنَ الْإِيمَانِ الْعُرْفِيِّ الَّذِي يَدَّعِيهِ كُلُّ أَحَدٍ لَهُ دِينٌ وَكِتَابٌ بَلْ هُوَ مَا عَرَّفْنَاهُ آنِفًا وَقَبْلَ ذَلِكَ، وَالْكَلَامُ يُشْعِرُ بِأَنَّهُ لَا يُوجَدُ فِيهِمْ مُؤْمِنٌ هَذَا الْإِيمَانَ الْإِذْعَانِيَّ الَّذِي يَصْحَبُهُ الْإِخْلَاصُ وَالْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ، مَعَ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ تَعْرَى مِنْهُ أُمَّةٌ لَهَا دِينٌ سَمَاوِيٌّ، وَالْوَاقِعُ أَنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ مُؤْمِنُونَ مُخْلِصُونَ ; وَلِذَلِكَ قَالَ - تَعَالَى -: مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرَهُمُ الْفَاسِقُونَ فَعُلِمَ أَنَّ الْحُكْمَ الْأَوَّلَ عَلَى الْأُمَّةِ إِنَّمَا هُوَ حُكْمٌ عَلَى أَكْثَرِ أَفْرَادِهَا فَهُمُ الَّذِينَ فَسَقُوا عَنْ حَقِيقَةِ الدِّينِ وَلَمْ يَبْقَ عِنْدَهُمْ مِنْهُ إِلَّا بَعْضُ الرُّسُومِ وَالتَّقَالِيدِ الظَّاهِرَةِ، فَالْكَلَامُ اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ لَا اسْتِطْرَادٌ كَمَا قِيلَ.

هَذَا مَا يُؤْخَذُ مِنْ كَلَامِ الْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ. وَجُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّ الْمَعْنَى: وَلَوْ آمَنَ

<<  <  ج: ص:  >  >>