أَنَّ قَوْلَهُ - تَعَالَى -: خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ مَعْنَاهُ خَيْرَ أُمَّةٍ ظَهَرَتْ لَهُمْ مُنْذُ وُجِدُوا، وَهُوَ أَحَدُ الْأَقْوَالِ الَّتِي أَوْرَدَهَا فِي مَعْنَى الْعِبَارَةِ قَالَ: وَالثَّانِي أَنَّ قَوْلَهُ: لِلنَّاسِ مِنْ تَمَامِ قَوْلِهِ: كُنْتُمْ وَالتَّقْدِيرُ: كُنْتُمْ
لِلنَّاسِ خَيْرَ أُمَّةٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: أُخْرِجَتْ صِلَةٌ، وَالتَّقْدِيرُ: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ لِلنَّاسِ اهـ. وَهَذَا الْأَخِيرُ أَضْعَفُ الْأَقْوَالِ.
وَالْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ لَمْ يَتَعَرَّضْ لِهَذَا السُّؤَالِ، وَالظَّاهِرُ عِنْدِي أَنَّ تَعْلِيلَ الْخَيْرِيَّةِ بِمَا ذُكِرَ هُنَا لَيْسَ لِأَنَّهُ كُلُّ السَّبَبِ فِي كَوْنِ هَذِهِ الْأُمَّةِ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ، بَلْ لِأَنَّ مَا كَانَتْ بِهِ خَيْرَ أُمَّةٍ لَا يُحْفَظُ وَلَا يَدُومُ إِلَّا بِإِقَامَةِ هَذِهِ الْأُصُولِ الثَّلَاثَةِ ; وَلِذَلِكَ اشْتُرِطَ عَلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ أَنْ يَكُونَ مِنْ غَرَضِهَا فِي الدِّفَاعِ عَنْ نَفْسِهَا وَحِفْظِ وَجُودِهَا الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ، كَأَنَّهَا لَوْلَا ذَلِكَ لَا تَكُونُ مُسْتَحِقَّةً لِلْبَقَاءِ فِي الْأَرْضِ، وَأَكَّدَ الْأَمْرَ بِهَذِهِ الْفَرِيضَةِ فِي آيَاتِ هَذِهِ السُّورَةِ بِمَا لَمْ يُعْرَفْ لَهُ نَظِيرٌ فِي كِتَابٍ مِنَ الْكُتُبِ السَّابِقَةِ، وَلَمْ تَقُمْ بِهِ أُمَّةٌ مِنَ الْأُمَمِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ، فَقَوْلُ الرَّازِيِّ: " إِنَّ هَذِهِ الصِّفَاتِ الثَّلَاثَ كَانَتْ حَاصِلَةً فِي سَائِرِ الْأُمَمِ " غَيْرُ صَحِيحٍ عَلَى إِطْلَاقِهِ.
وَقَدْ أَوْرَدَ (الرَّازِيُّ) هُنَا سُؤَالًا آخَرَ وَأَجَابَ عَنْهُ فَقَالَ: " لِمَ قُدِّمَ الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ عَلَى الْإِيمَانِ بِاللهِ فِي الذِّكْرِ مَعَ أَنَّ الْإِيمَانَ بِاللهِ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مُقَدَّمًا عَلَى كُلِّ الطَّاعَاتِ؟ وَالْجَوَابُ: أَنَّ الْإِيمَانَ بِاللهِ أَمْرٌ مُشْتَرَكٌ فِيهِ بَيْنَ جَمِيعِ الْأُمَمِ الْمُحِقَّةِ، ثُمَّ إِنَّهُ - تَعَالَى - فَضَّلَ هَذِهِ الْأُمَّةَ عَلَى سَائِرِ الْأُمَمِ الْمُحِقَّةِ فَيَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ الْمُؤَثِّرُ فِي حُصُولِ هَذِهِ الْخَيْرِيَّةِ هُوَ الْإِيمَانُ الَّذِي هُوَ الْقَدْرُ الْمُشْتَرَكُ بَيْنَ الْكُلِّ، بَلِ الْمُؤَثِّرُ فِي حُصُولِ هَذِهِ الزِّيَادَةِ هُوَ كَوْنُ هَذِهِ الْأُمَّةِ أَقْوَى حَالًا فِي الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ مِنْ سَائِرِ الْأُمَمِ، فَإِذَنِ الْمُؤَثِّرُ فِي حُصُولِ هَذِهِ الْخَيْرِيَّةِ هُوَ الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَأَمَّا الْإِيمَانُ بِاللهِ فَهُوَ شَرْطٌ لِتَأْثِيرِ هَذَا الْمُؤَثِّرِ فِي هَذَا الْحُكْمِ ; لِأَنَّهُ مَا لَمْ يُوجَدِ الْإِيمَانُ لَمْ يَصِرْ شَيْءٌ مِنَ الطَّاعَاتِ مُؤَثِّرًا فِي صِفَةِ الْخَيْرِيَّةِ، فَثَبَتَ أَنَّ الْمُوجِبَ لِهَذِهِ الْخَيْرِيَّةِ هُوَ كَوْنُهُمْ آمِرِينَ بِالْمَعْرُوفِ نَاهِينَ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَأَمَّا إِيمَانُهُمْ فَذَاكَ شَرْطُ التَّأْثِيرِ وَالْمُؤَثِّرُ أَلْصَقُ بِالْأَثَرِ مِنْ شَرْطِ التَّأْثِيرِ ; فَلِهَذَا السَّبَبِ قَدَّمَ اللهُ - تَعَالَى - ذِكْرَ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ عَلَى ذِكْرِ الْإِيمَانِ " اهـ. بِمَا فِيهِ مِنْ تَكْرَارٍ.
وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: أَمَّا تَقْدِيمُ ذِكْرِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ عَلَى الْإِيمَانِ فَالْحِكْمَةُ فِيهِ أَنَّ هَذِهِ الصِّفَةَ (الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ) مَحْمُودَةٌ فِي عُرْفِ جَمِيعِ النَّاسِ: مُؤْمِنِهِمْ وَكَافِرِهِمْ، يَعْتَرِفُونَ لِصَاحِبِهَا بِالْفَضْلِ وَلَمَّا كَانَ الْكَلَامُ فِي خَيْرِيَّةِ هَذِهِ الْأُمَّةِ عَلَى جَمِيعِ الْأُمَمِ مُؤْمِنِهِمْ وَكَافِرِهِمِ قَدَّمَ الْوَصْفَ الْمُتَّفَقَ عَلَى حُسْنِهِ عِنْدَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ، وَهُنَاكَ حِكْمَةٌ
أُخْرَى وَهِيَ أَنَّ الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ سِيَاجُ الْإِيمَانِ وَحِفَاظُهُ (كما تَقَدَّمَ بَيَانُهُ) فَكَانَ تَقْدِيمُهُ فِي الذِّكْرِ مُوَافِقًا لِمَعْهُودٍ عِنْدَ النَّاسِ فِي جَعْلِ سِيَاجِ كُلِّ شَيْءٍ مُقَدَّمًا عَلَيْهِ.
أَقُولُ: كُلُّ ذَلِكَ حَسَنٌ، وَالْمُتَبَادِرُ عِنْدِي أَنَّ تَقْدِيمَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ لِلتَّعْرِيضِ بِأَهْلِ الْكِتَابِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute