الضَّمِيرُ الْمُتَّصِلُ هَاهُنَا بِالضَّمِيرِ الْمُنْفَصِلِ " نَحْنُ " لَمَا أَفَادَ مَعْنَى الرَّغْبَةِ فِي أَوَّلِيَّةِ الْإِلْقَاءِ الْمُصَرَّحِ بِهِ فِي سُورَةِ طَهَ، وَبِذَلِكَ عُلِمَ أَنَّ مُرَاعَاةَ الْفَاصِلَتَيْنِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ هُوَ الَّذِي وَحَّدَ بَيْنَهُمَا بِجَعْلِ كُلٍّ مِنْهُمَا دَالًّا عَلَى رَغْبَةِ السَّحَرَةِ فِي التَّقَدُّمِ وَالْأَوَّلِيَّةِ، فَأَيُّ خَطِيبٍ أَوْ كَاتِبٍ يَقْدِرُ عَلَى إِفَادَةِ هَذَا الْمَعْنَى بِأُسْلُوبَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ فِي اللَّفْظِ مِنْ غَيْرِ تَصْرِيحٍ بِهِ، وَأَيُّ مُتَرْجِمٍ تُرْكِيٍّ أَوْ إِفْرِنْجِيٍّ يَفْقَهُ هَذَا وَيُؤَدِّيهِ فِي تَرْجَمَتِهِ لِلْقُرْآنِ؟
قَالَ أَلْقُوا وَفِي سُورَةِ طَهَ: قَالَ بَلْ أَلْقُوا (٢٠: ٦٦) وَهُوَ أَدَلُّ عَلَى رَغْبَتِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي سَبْقِهِمْ لِلْإِلْقَاءِ، وَلَعَلَّهُ نَطَقَ أَوَّلًا بِمَا فِيهِ الْإِضْرَابُ فَقَالَ: بَلْ أَلْقُوا أَنْتُمْ مِنْ دُونِي ثُمَّ أَعَادَ كَلِمَةً (أَلْقُوا) وَحْدَهَا؛ لِتَأْكِيدِ رَغْبَتِهِ، وَالْإِيذَانِ بِعَدَمِ مُبَالَاتِهِ، وَفِي سُورَتَيْ يُونُسَ وَالشُّعَرَاءِ: قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ، فَأَظْهَرَ اسْمَ مُوسَى الَّذِي أَضْمَرَهُ هُنَا، وَفِي سُورَةِ طَهَ؛ لِأَنَّهُ جَوَابٌ لِخِطَابِهِمْ إِيَّاهُ بِاسْمِهِ بِالتَّخْيِيرِ، فَالْمَقَامُ فِيهَا مَقَامُ الْإِضْمَارِ حَتْمًا، وَأَمَّا إِظْهَارُهُ فِي سُورَتَيْ يُونُسَ وَالشُّعَرَاءِ فَسَبَبُهُ أَنَّهُ لَيْسَ فِيهِمَا ذِكْرٌ لِنِدَاءِ السَّحَرَةِ إِيَّاهُ وَتَخْيِيرِهِمْ لَهُ، فَأَوَّلُ آيَةِ يُونُسَ: فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا (١٠: ٨٠) وَقَبْلَهَا طَلَبُ فِرْعَوْنَ لِلسَّحَرَةِ، وَمَجِيئُهُمْ وَسُؤَالُهُمْ إِيَّاهُ الْأَجْرَ إِنْ كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ، وَإِجَابَتُهُ إِيَّاهُمْ، فَهِيَ أَوْلَى مِنْ آيَةِ يُونُسَ بِمَا ذَكَرَ، وَأَمَّا زِيَادَةُ مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ فَإِنَّهَا فَائِدَةٌ نَافِلَةٌ ذَاتُ شَأْنٍ تَدُلُّ عَلَى عَدَمِ مُبَالَاتِهِ بِمَا يُلْقُونَ مَهْمَا عَظُمَ أَمْرُهُ وَكَانَ مَجْهُولًا عِنْدَهُ، وَهِيَ لَا تُنَافِي عَدَمَ ذِكْرِهَا فِي آيَةِ الْأَعْرَافِ فَيَجْمَعُ بَيْنَهُمَا.
وَقَدْ قِيلَ: كَيْفَ أَمَرَهُمْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بِإِلْقَاءِ مَا عِنْدَهُمْ وَهُوَ مِنَ السِّحْرِ الْمُنْكَرِ؟ وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ لَمْ يَأْمُرْ بِفِعْلِ السِّحْرِ ابْتِدَاءً، وَإِنَّمَا أَمَرَ بِأَنْ يَتَقَدَّمُوهُ فِيمَا جَاءُوا لِأَجْلِهِ وَلَا بُدَّ لَهُمْ مِنْهُ، وَأَرَادَ التَّوَسُّلَ بِهِ إِلَى إِظْهَارِ بُطْلَانِ السِّحْرِ لَا إِثْبَاتِهِ، وَإِلَى بِنَاءِ ثُبُوتِ الْحَقِّ عَلَى بُطْلَانِهِ، وَلَمْ يَكُنْ ثَمَّ وَسِيلَةٌ لِإِبْطَالِهِ إِلَّا ذَلِكَ، وَقَدْ صَرَّحَ بِهِ فِيمَا حَكَاهُ تَعَالَى عَنْهُ فِي سُورَةِ يُونُسَ: قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ وَيُحِقُّ اللهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (١٠: ٨١، ٨٢) وَمِثْلُهُ تَوَسُّلُ إِبْرَاهِيمَ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَعَلَى نَبِيِّنَا وَآلِهِمَا إِلَى إِظْهَارِ حَقِيقَةِ التَّوْحِيدِ لِعَبَدَةِ الْكَوَاكِبِ مِنْ قَوْمِهِ لَمَّا رَأَى كُلًّا مِنَ الْكَوْكَبِ وَالْقَمَرِ وَالشَّمْسِ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي (٦: ٧٧) ثُمَّ تَعَقَّبَهُ بِمَا يَدُلُّ
عَلَى كَوْنِهِ لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ رَبًّا، وَإِسْمَاعُهُ إِيَّاهُمْ بَعْدَ إِبْطَالِ رُبُوبِيَّتِهَا، كُلُّهَا حَقِيقَةُ التَّوْحِيدِ بِقَوْلِهِ: إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٦: ٧٩) .
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute