للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

تَتَوَقَّفُ عَلَيْهَا مَصَالِحُ الدُّنْيَا صَادَّةً عَنِ الدِّينِ مُبْعِدَةً عَنْهُ، بَلْ يُوجَدُ فِيهِمْ مَنْ يَقُولُ: إِنَّهَا مُفْسِدَةٌ لِعَقَائِدِهِ مُفْضِيَةٌ إِلَى الْخُرُوجِ مِنْهُ. وَهَذَا هُوَ دُخُولُ جُحْرِ الضَّبِّ الَّذِي دَخَلَهُ مَنْ قَبْلَنَا، وَهُوَ كَمَا تَرَى خُرُوجٌ عَنْ هَدْيِ الْقُرْآنِ.

وَقَدْ يُقَالُ: إِذَا كَانَ الْمُنْقَطِعُ لِعُلُومِ الدِّينِ لَا يَأْمَنُ عَلَى عَقِيدَتِهِ أَنْ تَذْهَبَ وَدِينِهِ أَنْ يَفْسُدَ إِذَا هُوَ تَفَكَّرَ فِي مَصَالِحِ الدُّنْيَا وَعَرَفَ الْعُلُومَ الَّتِي لَا تَقُومُ هَذِهِ الْمَصَالِحُ بِدُونِهَا، فَكَيْفَ يَكُونُ حَالُ مَنْ يَدْرُسُونَ هَذِهِ الْعُلُومَ الدُّنْيَوِيَّةَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَلَيْسُوا عَلَى شَيْءٍ يُعْتَدُّ بِهِ مِنَ الْعُلُومِ الدِّينِيَّةِ؟ لَا جَرَمَ أَنَّ هَذَا قَضَاءٌ عَلَى الْإِسْلَامِ بِأَنَّهُ آفَةُ الْعُمْرَانِ، وَعَدُوُّ الْعِلْمِ وَالنِّظَامِ، وَهُوَ قَضَاءٌ جَائِرٌ يُبْطِلُهُ الْقُرْآنُ، وَتَنْقُضُهُ سِيرَةُ السَّلَفِ الصَّالِحِينَ الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ، وَلَكِنْ أَيْنَ مَنْ يَتَّبِعُهُمَا الْآنَ؟ ! وَقَدْ قَامَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ لَمْ يَنْظُرُوا فِي كِتَابِ اللهِ مَرَّةً نَظْرَةَ مُعْتَبِرٍ، وَلَمْ يَتْلُوا مِنْهُ آيَةً تِلَاوَةَ مُفَكِّرٍ مُتَدَبِّرٍ، يَقْسِمُونَ الْمُسْلِمِينَ إِلَى قِسْمَيْنِ: قِسْمٌ لَا تَجِبُ الْمُبَالَاةُ بِدِينِهِ، وَلَا يُهْتَمُّ بِهِ فِي شَكِّهِ أَوْ يَقِينِهِ، فَلَهُ أَنْ يَتَعَلَّمَ مَا يَشَاءُ صَحَّتْ عَقِيدَتُهُ أَوْ فَسَدَتْ، صَلَحَتْ أَعْمَالُهُ أَوْ خَسِرَتْ. وَقِسْمٌ آخَرُ يَجِبُ أَنْ يُصَانَ عَقْلُهُ عَنْ كُلِّ فِكْرٍ، وَيُحَاطَ بِجَمِيعِ الْوَسَائِلِ الَّتِي تَمْنَعُهُ مِنَ النَّظَرِ فِيمَا عَلَيْهِ النَّاسُ مَنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ، وَمَا يَعْرِضُ فِي الْكَوْنِ مَنْ نَفْعٍ وَضُرٍّ، كَيْلَا يُفْسِدَ النَّظَرُ عَقِيدَتَهُ، وَيُضِلَّ الْفِكْرُ السَّلِيمُ بَصِيرَتَهُ، وَهَذَا الْقِسْمُ هُوَ الَّذِي تُفَوَّضُ إِلَيْهِ الرِّيَاسَةُ الدِّينِيَّةُ، وَيُعْهَدُ إِلَيْهِ بِقِيَادَةِ الْأُمَّةِ فِي صَلَاحِ

الْأَعْمَالِ وَانْتِظَامِ الْأَحْوَالِ، وَأَعْظَمُ قِسْمٍ فِي الْأُمَّةِ هُوَ الْقِسْمُ الْأَوَّلُ بِحُكْمِ الضَّرُورَةِ، بَلْ هُوَ الْأُمَّةُ كُلُّهَا بِالتَّقْرِيبِ، وَقَدْ صَارَ بِيَدِهِ زِمَامُ جَمِيعِ أُمُورِهَا وَقُوَّةُ الْحُكْمِ فِيهَا; إِذْ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَتَيَسَّرَ لِهَذَا الْقِسْمِ الثَّانِي، وَهُوَ خَلْوٌّ مِنَ الْعِلْمِ بِحَالِهَا، وَدُونَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا فِي الْعَقْلِ، وَفَوْقَهُ فِي الْغَبَاوَةِ وَالْجَهْلِ، أَنْ يَقُودَ وَاحِدًا مِنْهَا، بَلْهَ قِيَادَتَهَا كُلَّهَا؟ فَهَلْ يَتَّفِقُ مِثْلُ هَذَا لِلْخَلَفِ، مَعَ شَيْءٍ مِنْ سُنَّةِ السَّلَفِ؟ أَلَا عَاقِلٌ يَقُولُ لِهَؤُلَاءِ الْمُشَعْوِذِينَ: كَيْفَ سَاغَ فِي عُقُولِكُمْ أَنْ يُسَلَّمَ إِلَى الْجَاهِلِ قِيَادَةُ الْعَاقِلِ؟ وَكَيْفَ يَتَيَسَّرُ حِفْظُ الدِّينِ بِالْعُدُولِ عَنْ سُنَنِ الْمُرْسَلِينَ، وَمُخَالَفَةِ سَيْرِ السَّلَفِ الصَّالِحِينَ؟

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى) إِلَخْ، أَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَالْحَاكِمُ وَغَيْرُهُمْ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ (وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) (١٧: ٣٤) وَ (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى) (٤: ١٠) الْآيَةَ. انْطَلَقَ مَنْ كَانَ عِنْدَهُ يَتِيمٌ فَعَزَلَ طَعَامَهُ مِنْ طَعَامِهِ وَشَرَابَهُ مِنْ شَرَابِهِ، فَجَعَلَ يَفْضُلُ لَهُ الشَّيْءُ مِنْ طَعَامِهِ فَيُحْبَسُ لَهُ حَتَّى يَأْكُلَهُ أَوْ يَفْسَدَ، فَاشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ، فَذَكَرُوا ذَلِكَ لِرَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَنْزَلَ اللهُ (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى) الْآيَةَ. ذَكَرَهُ السُّيُوطِيُّ فِي أَسْبَابِ النُّزُولِ.

نَعَمْ إِنَّ آيَاتِ الْوَصِيَّةِ فِي الْيَتَامَى كَثِيرَةٌ، وَمِنْهَا مَا نَزَلْ فِي مَكَّةَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) (١٧: ٣٤)

<<  <  ج: ص:  >  >>