فِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: (فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ) (٩٣: ٩) فِي سُورَةِ الضُّحَى، وَقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: (فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ) (١٠٧: ٢) فِي سُورَةِ الْمَاعُونِ، جَعَلَ دَعَّ الْيَتِيمِ - وَهُوَ دَفْعُهُ وَجَرُّهُ بِعُنْفٍ - أَوَّلَ آيَاتِ التَّكْذِيبِ بِالدِّينِ.
وَأَجْمَعُ مَا وَرَدَ فِي ذَلِكَ وَآكَدُهُ آيَاتُ سُورَةِ النِّسَاءِ وَهِيَ مَدَنِيَّةٌ كَسُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَمِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا) (٤: ١٠) وَلَكِنَّ سُورَتَهَا نَزَلَتْ بَعْدَ سُورَةِ الْبَقَرَةِ. وَقَدْ كَانَ السَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ يَحْفَظُونَ حُدُودَ اللهِ تَعَالَى، وَيَأْخُذُونَ الْقُرْآنَ بِقُوَّةٍ; لِأَنَّهُمْ لِبَلَاغَتِهِمْ يَفْهَمُونَ الْوَعِيدَ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْآيَةِ، فَتُحْدِثُ لَهُمْ مِنَ الذِّكْرَى وَالْعِظَةِ مَا لَا يَجِدُ مِثْلَهُ مَنْ لَمْ يُؤْتَ بَلَاغَتَهُمْ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِبَلَاغَتِهِمْ أَنَّهُمْ قَرَءُوا عِلْمَ الْمَعَانِي وَالْبَيَانِ فَحَفِظُوا فِي أَذْهَانِهِمْ عِلَلًا كَثِيرَةً لِلتَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ فِي
الْمُسْنَدِ وَالْمُسْنَدِ إِلَيْهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا هِيَ مَقَاصِدُ الْكَلَامِ وَمَغَازِيهِ تَغُوصُ فِي أَعْمَاقِ الْقُلُوبِ كَمَا يَغُوصُ الْمَاءُ فِي الْإِسْفَنْجِ، فَلَا تَدَّعِ فِيهَا مَكَانًا يَتَعَاصَى عَلَى تَأْثِيرِهَا كَمَا قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ. هَذَا الِاتِّعَاظُ وَالِاعْتِبَارُ بِوَصَايَا الْكِتَابِ الْعَزِيزِ فِي الْيَتَامَى قَدْ مَلَكَ نُفُوسَ الْمُؤْمِنِينَ فَتَرَكَهُمْ فِي حَيْرَةٍ وَحَرَجٍ مِنْ أَمْرِ الْقِيَامِ عَلَيْهِمْ وَاسْتِغْلَالِ أَمْوَالِهِمْ; خَوْفًا أَنْ يَنَالَهُمْ شَيْءٌ مِنَ الظُّلْمِ الْمَذْكُورِ فِي آيَةِ سُورَةِ النِّسَاءِ; لِأَنَّ الظُّلْمَ يَتَنَاوَلُ كُلَّ مَا نَقَصَ مِنَ الْحَقِّ، وَشَاهِدُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: (كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا) (١٨: ٣٣) فَإِذَا اخْتَلَطَ اثْنَانِ فِي النَّفَقَةِ وَأَكَلَ أَحَدُهُمَا مِمَّا اشْتَرَى بِمَالِهِمَا أَكْثَرَ مِنَ الْآخَرِ تَكُونُ الزِّيَادَةُ مِنْ مَالِ الْآخَرِ، فَإِنْ كَانَ رَاشِدًا فَرِضَاهُ وَلَوْ بِالْعُرْفِ أَوِ الْقَرِينَةِ إِذَنْ يُبِيحُ هَذَا التَّنَاوُلَ، وَأَمَّا إِذَا كَانَ الْخَلِيطُ يَتِيمًا فَإِنَّ الزِّيَادَةَ تَكُونُ مَظِنَّةَ الظُّلْمِ أَوْ هِيَ مِنْهُ حَتْمًا; وَلِذَلِكَ تَأَثَّمَ الصَّحَابَةُ عَلَيْهِمُ الرِّضْوَانُ مِنْ مُخَالَطَةِ الْيَتَامَى بَعْدَ نُزُولِ آيَةِ النِّسَاءِ، وَإِنْ كَانَتِ الْعَادَةُ جَارِيَةً بِتَسَامُحِ النَّاسِ فِي مُؤَاكَلَةِ الْخُلَطَاءِ وَالشُّرَكَاءِ مِنْ غَيْرِ تَدْقِيقٍ، فَكَانَ بَعْضُهُمْ يَأْبَى الْقِيَامَ عَلَى الْيَتِيمِ، وَبَعْضُهُمْ يَعْزِلُ الْيَتِيمَ عَنْ عِيَالِهِ فَلَا يُخَالِطُونَهُ فِي شَيْءٍ حَتَّى إِنَّهُمْ كَانُوا يَطْبُخُونَ لَهُ وَحْدَهُ، ثُمَّ إِنَّهُمْ فَطِنُوا إِلَى أَنَّ هَذَا - عَلَى مَا فِيهِ مِنَ الْحَرَجِ عَلَيْهِمْ - لَا مَصْلَحَةَ فِيهِ لِلْيَتِيمِ بَلْ هُوَ مَفْسَدَةٌ لَهُ فِي تَرْبِيَتِهِ وَمَضْيَعَةٌ لِمَالِهِ، وَفِيهِ مِنَ الْقَهْرِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ مَا لَا يَخْفَى; فَإِنَّهُ يَكُونُ فِي الْبَيْتِ كَالْكَلْبِ، أَوِ الدَّاجِنِ فِي مَأْكَلِهِ وَمَشْرَبِهِ. وَمِنْ هُنَا جَاءَتِ الْحَيْرَةُ وَاحْتِيجَ إِلَى السُّؤَالِ عَنْ طَرِيقِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ، وَالتَّوْحِيدِ بَيْنَ الْمَصْلَحَتَيْنِ، بِأَنْ يَعِيشَ الْيَتِيمُ فِي بَيْتِ كَافِلِهِ عَزِيزًا كَرِيمًا كَأَحَدِ عِيَالِهِ، وَيَسْلَمَ الْكَافِلُ مِنْ أَكْلِ شَيْءٍ مِنْ مَالِهِ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَكَانَ مِنْ فَضْلِ اللهِ تَعَالَى وَرَحْمَتِهِ أَنْ أَنْزَلَ الْوَحْيَ فِي إِزَالَةِ الْحَيْرَةِ وَكَشْفِ الْغُمَّةِ، فَقَالَ لِنَبِيِّهِ: (قُلْ) لِهَؤُلَاءِ السَّائِلِينَ عَنِ الْقِيَامِ عَلَى الْيَتَامَى وَكَفَالَتِهِمْ، وَعَنِ الْمَصْلَحَةِ فِي عَزْلِهِمْ أَوْ مُخَالَطَتِهِمْ (إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ) يَعْنِي أَيَّ إِصْلَاحٍ لَهُمْ خَيْرٌ مِنْ عَدَمِهِ فَلَا تَتْرُكُوا شَيْئًا مِمَّا تَعْلَمُونَ أَنَّ فِيهِ صَلَاحًا لَهُمْ فِي أَمْوَالِهِمْ وَأَحْوَالِهِمْ مِنْ تَرْبِيَةٍ وَتَهْذِيبٍ، هَذَا مَا
أَفَادَهُ تَنْكِيرُ (إِصْلَاحٌ) وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ لِرُؤْيَتِكُمُ الْخَيْرَ لَهُمْ فِي الْمُخَالَطَةِ فِي الْمَعِيشَةِ فَهُمْ إِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ، وَإِنَّمَا شَأْنُ الْإِخْوَانِ الْمُخَالَطَةُ فِي الْمُعَاشَرَةِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute