للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وَقَدْ أَزَالَتِ الْكَلِمَةُ الْأُولَى مِنْ هَذَا الْجَوَابِ الْوَجِيزِ شُبْهَةَ الْمُتَأَثِّمِينَ مِنْ كَفَالَتِهِمْ، وَكَشَفَتِ الْكَلِمَةُ الثَّانِيَةُ شُبْهَةَ الْقُوَّامِ الْمُتَحَرِّجِينَ مِنْ مُخَالَطَتِهِمْ، وَمِنْ هَذَا الْجَوَابِ عَرَفْنَا حَقِيقَةَ السُّؤَالِ، وَهَذَا مِنْ ضُرُوبِ الْإِيجَازِ الَّتِي لَمْ تُعْرَفُ إِلَّا مِنَ الْقُرْآنِ.

أَمَّا مَعْنَى كَوْنِ الْإِصْلَاحِ لَهُمْ خَيْرًا فَهُوَ أَنَّ الْقِيَامَ عَلَيْهِمْ لِإِصْلَاحِ نُفُوسِهِمْ بِالتَّهْذِيبِ وَالتَّرْبِيَةِ، وَإِصْلَاحِ أَمْوَالِهِمْ بِالتَّثْمِيرِ وَالتَّنْمِيَةِ، هُوَ خَيْرٌ مِنْ إِهْمَالِ شَأْنِهِمْ وَتَرْكِهِمْ لِأَنْفُسِهِمْ تَفْسُدُ أَخْلَاقُهُمْ وَتَضِيعُ حُقُوقُهُمْ، خَيْرٌ لَهُمْ لِمَا فِيهِ مِنْ صَلَاحِهِمْ، وَخَيْرٌ لِلْقُوَّامِ وَالْكَافِلِينَ لِمَا فِيهِ مِنْ دَرْءِ مَفْسَدَةِ إِهْمَالِهِمْ، وَمِنَ الْمَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ فِي صَلَاحِ حَالِهِمْ، وَلِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ حُسْنِ الْقُدْوَةِ فِي الدُّنْيَا، وَحُسْنِ الْمَثُوبَةِ فِي الْأُخْرَى. قَالَ فِي التَّفْسِيرِ الْكَبِيرِ: قَالَ الْقَاضِي: هَذَا الْكَلَامُ يَجْمَعُ النَّظَرَ فِي صَلَاحِ مَصَالِحِ الْيَتِيمِ بِالتَّقْوِيمِ وَالتَّأْدِيبِ وَغَيْرِهَا لِكَيْ يَنْشَأَ عَلَى عِلْمٍ وَأَدَبٍ وَفَضْلٍ; لِأَنَّ هَذَا الصُّنْعَ أَعْظَمُ تَأْثِيرٍ فِيهِ مِنْ إِصْلَاحِ حَالِهِ بِالتِّجَارَةِ، وَيَدْخُلُ فِيهِ أَيْضًا إِصْلَاحُ مَالِهِ كَيْ لَا تَأْكُلَهُ النَّفَقَةُ مِنْ جِهَةِ التِّجَارَةِ، وَيَدْخُلُ فِيهِ أَيْضًا مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ) (٤: ٢) .

وَأَمَّا قَوْلُهُ: (وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ) فَمَعْنَاهُ أَنَّهُ لَا وَجْهَ لِلتَّأَثُّمِ مِنْ مُخَالَطَتِهِمْ فِي الْمَأْكَلِ وَالْمَشْرَبِ وَالْمَكْسِبِ، فَهُمْ إِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ، وَمِنْ شَأْنِ الْإِخْوَةِ أَنْ يَكُونُوا خُلَطَاءَ وَشُرَكَاءَ فِي الْمِلْكِ وَالْمَعَاشِ، وَلَا ضَرَرَ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ فِي ذَلِكَ، بَلْ هُوَ نَافِعٌ لَهُمْ; لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَسْعَى فِي مَصْلَحَةِ الْجَمِيعِ، وَالْمُخَالَطَةُ مَبْنِيَّةٌ بَيْنَهُمْ عَلَى الْمُسَامَحَةِ لِانْتِفَاءِ مَظِنَّةِ الطَّمَعِ وَتَحَقُّقِ الْإِخْلَاصِ وَحُسْنِ النِّيَّةِ، كَأَنَّهُ يَقُولُ: وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَعَلَيْكُمْ أَنْ تُعَامِلُوهُمْ مُعَامَلَةَ الْإِخْوَةِ فِي ذَلِكَ، فَيَكُونُ الْيَتِيمُ فِي الْبَيْتِ كَالْأَخِ الصَّغِيرِ تُرَاعَى مَصْلَحَتُهُ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ، وَيُتَحَرَّى أَنْ يَكُونَ فِي كِفَّتِهِ الرُّجْحَانُ، وَقِيلَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالْمُخَالَطَةِ الْمُصَاهَرَةُ، وَأُخُوَّةُ الْإِسْلَامِ عِلَّةٌ لِحِلِّهَا، وَقَدْ أَطَالَ أَبُو مُسْلِمٍ فِي تَرْجِيحِ هَذَا الْوَجْهِ.

وَهَذَا الَّذِي هَدَانَا إِلَيْهِ الْكِتَابُ الْعَزِيزُ فِي شَأْنِ الْيَتَامَى مِنْ مُعَامَلَتِهِمْ كَالْإِخْوَانِ

مَبْنِيٌّ عَلَى مَا أَوْدَعَ الْفِطْرَةَ السَّلِيمَةَ مِنَ الْحُبِّ وَالْإِخْلَاصِ لِلْأَقْرَبِينَ، وَقَدْ طَرَأَ الْفَسَادُ عَلَى هَذِهِ الرَّابِطَةِ النِّسْبِيَّةِ فِي بِلَادٍ كَثِيرَةٍ بِمَا أَفْسَدَتِ السِّيَاسَةُ فِي الْأُمَّةِ، فَصَارَ الْأَخُ يَطْمَعُ فِي مَالِ أَخِيهِ، وَيَحْفِرُ لَهُ مِنَ الْمَهَاوِي مَا لَعَلَّهُ هُوَ يَقَعُ فِيهِ، وَأَمْثَالُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ فَسَدَتْ طِبَاعُهُمْ وَاعْتَلَّتْ خَلَائِقُهُمْ لَا يُوكَلُ إِلَيْهِمُ الرُّجُوعُ إِلَى الْفِطْرَةِ وَتَحْكِيمِهَا فِي مُعَامَلَةِ الْيَتَامَى كَالْإِخْوَةِ; لِذَلِكَ لَمْ يَكْتَفِ الْقُرْآنُ بِذَلِكَ حَتَّى وَضَعَ لِلضَّمِيرِ وَالْوِجْدَانِ قَاعِدَةً يَرْجِعُ إِلَيْهَا فِي هَذَا الشَّأْنِ، فَقَالَ: (وَاللهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ) أَيْ: إِنَّهُ لَمْ يَكِلْ أَمْرَ مُخَالَطَةِ الْيَتَامَى إِلَى حُكْمِ نَزْعَةِ الْقَرَابَةِ وَعَاطِفَةِ الْأُخُوَّةِ مِنْ قُلُوبِكُمْ إِلَّا وَهُوَ يَعْلَمُ مَا تُضْمِرُ هَذِهِ الْقُلُوبُ مِنْ قَصْدِ الْإِصْلَاحِ لَهُمْ أَوِ الْإِفْسَادِ، فَعَلَيْكُمْ أَنْ تُرَاقِبُوهُ فِي أَعْمَالِكُمْ وَنِيَّاتِكُمْ، وَتَعْلَمُوا أَنْ سَيُحَاسِبُكُمْ عَلَى مِثْقَالِ

<<  <  ج: ص:  >  >>