للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

الذَّرَّةِ مِمَّا تَعْمَلُونَ لَهُمْ. وَالْمُصْلِحُ: هُوَ مَنْ يَأْتِي بِالْإِصْلَاحِ عَمَلًا، وَالْمُفْسِدُ: هُوَ مَنْ يَأْتِي بِالْإِفْسَادِ فِعْلًا، وَحَالُ كُلٍّ مِنْهُمَا ظَاهِرَةٌ لِلْعِيَانِ، وَإِنَّمَا أَيْقَظَ اللهُ تَعَالَى الْقُلُوبَ إِلَى ذِكْرِ عِلْمِهِ بِذَلِكَ لِتُلَاحِظَ اطِّلَاعَهُ عَلَى الْعَمَلِ، وَتَتَذَكَّرَ جَزَاءَهُ عَلَيْهِ فَتُرَاقِبَهُ فِيمَا خَفِيَ مِنْهُ، لَعَلَّهَا تَأْمَنُ مِنْ مَزَالِقِ الشَّهْوَةِ، وَتَسْلَمُ مِنْ مَزَالِّ الشُّبْهَةِ; فَإِنَّ شَهْوَةَ الطَّامِعِ تُولِدُ لِصَاحِبِهَا شُبْهَةَ أَكْلِ مَالِ الْيَتِيمِ، كَمَا يَأْكُلُ صَاحِبُهَا مَالَ أَخِيهِ الضَّعِيفِ، وَلَا عَاصِمَ مِنْ ذَلِكَ إِلَّا بِمُرَاقَبَةِ اللهِ تَعَالَى وَتَقْوَاهُ. وَإِلَّا فَإِنَّنَا نَرَى أَكْثَرَ الْأَوْصِيَاءِ عَلَى الْأَيْتَامِ فِي هَذَا الزَّمَانِ يُظْهِرُونَ لِلْمَلَأِ إِصْلَاحَ أَحْوَالِهِمْ، وَتَثْمِيرَ أَمْوَالِهِمْ، مَعَ الْعِفَّةِ وَالزَّهَادَةِ فِيهَا، وَهُمْ فِي الْبَاطِنِ يَأْكُلُونَهَا أَكْلًا لَمًّا، حَتَّى إِنَّ وَاحِدَهُمْ يُصْبِحُ غَنِيًّا بَعْدَ فَقْرٍ وَلَا عَمَلَ لَهُ إِلَّا الْقِيَامُ عَلَى الْيَتِيمِ، وَالْأُجْرَةُ الْمَفْرُوضَةُ لَهُ عَلَى الْوِصَايَةِ لَا غَنَاءَ فِيهَا فَيَكُونُ غَنِيًّا بِهَا. وَكُلُّ مَنْ يَطْلُبُ أَنْ يَكُونَ وَصِيًّا عَلَى يَتِيمٍ وَيَسْعَى لِذَلِكَ سَعْيَهُ فَهُوَ مَوْضِعٌ لِلظِّنَّةِ، وَقَلَّمَا يُوجَدُ فِيهِمْ مَنْ يَرْضَى بِمَا يُفْرَضُ لَهُ عَلَى عَمَلِهِ، وَسَيَأْتِي مَا يَحِلُّ لِلْوَصِيِّ مِنْ مَالِ الْيَتِيمِ وَمَا يَحْرُمُ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى.

ثُمَّ بَيَّنَ لَنَا سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مِنَّتَهُ عَلَيْنَا وَرَحْمَتَهُ بِنَا بِمَا أَذِنَ لَنَا مِنْ مُخَالَطَةِ الْيَتَامَى فَقَالَ: (وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَأَعْنَتَكُمْ) أَيْ: أَوْقَعَكُمْ فِي الْعَنَتِ، وَهُوَ الْمَشَقَّةُ وَمَا يَصْعُبُ

احْتِمَالُهُ، بِأَنْ يُكَلِّفَكُمُ الْقِيَامَ بِشُئُونِ الْيَتَامَى وَتَرْبِيَتِهِمْ وَحِفْظِ أَمْوَالِهِمْ، وَلَا يَأْذَنُ لَكُمْ بِمُخَالَطَتِهِمْ وَلَا بِأَكْلِ لُقْمَةٍ وَاحِدَةٍ مِنْ طَعَامِهِمْ، وَلَكِنَّهُ لِسِعَةِ رَحْمَتِهِ لَا يُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا، (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) (٢٢: ٧٨) وَلِذَلِكَ أَبَاحَ لَكُمْ مُخَالَطَةَ الْيَتَامَى عَلَى أَنْ تُعَامِلُوهُمْ مُعَامَلَةَ الْإِخْوَةِ، وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ، وَقَدْ عَفَا عَمَّا جَرَى الْعُرْفُ عَلَى التَّسَامُحِ فِيهِ لِعَدَمِ اسْتِغْنَاءِ الْخُلَطَاءِ عَنْهُ، وَوَكَلَ ذَلِكَ إِلَى ذِمَّتِكُمْ وَأَمَرَكُمْ بِمُرَاقَبَتِهِ فِيهِ، وَهُوَ الرَّقِيبُ الْمُهَيْمِنُ الَّذِي لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ عَمَلِكُمْ وَلَا مِنْ قَصْدِكُمْ وَنِيَّتِكُمْ. (إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) فَلَوْ شَاءَ إِعْنَاتَكُمْ لَعَزَّ عَلَى غَيْرِهِ مَنْعُهُ مِنْ ذَلِكَ; إِذْ لَا عِزَّةَ تَعْلُو عِزَّتَهُ، وَلَكِنْ مَضَتْ حِكْمَتُهُ بِأَنْ تَكُونَ شَرِيعَتُهُ جَامِعَةً لِمَصَالِحِ عِبَادِهِ، جَارِيَةً عَلَى سُنَنِ الْفِطْرَةِ الْمُعْتَدِلَةِ الَّتِي فَطَرَهُمْ عَلَيْهَا.

هَكَذَا جَعَلَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ ذِكْرَ (الْعَزِيزِ) فِي هَذَا الْمَقَامِ لِتَقْرِيرِ إِمْكَانِ تَعَلُّقِ الْمَشِيئَةِ بِالْإِعْنَاتِ، وَذِكْرَ (الْحَكِيمِ) لِتَقْرِيرِ التَّفَضُّلِ بِعَدَمِ تَعْلِيقِ الْمَشِيئَةِ بِهِ، وَكُلٌّ مِنَ الْأَمْرَيْنِ مَفْهُومٌ مِنْ قَوْلِهِ: (وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَأَعْنَتَكُمْ) وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ ذِكْرُ الِاسْمَيْنِ الْكَرِيمَيْنِ تَقْرِيرًا لِعِزَّتِهِ وَحِكْمَتِهِ تَعَالَى فِي الْمَسَائِلِ الثَّلَاثِ فِي الْآيَتَيْنِ: مَسْأَلَةُ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ، وَمَسْأَلَةُ الْإِنْفَاقِ، وَمَسْأَلَةُ الْيَتَامَى، فَإِنَّهَا وَرَدَتْ فِي الْآيَاتِ مَعْطُوفًا آخِرُهَا عَلَى أَوَّلِهَا، وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ بِمَنْعِ النَّاسِ بَعْضَ الشَّهَوَاتِ، وَبِتَكْلِيفِهِمُ الْإِنْفَاقَ مِنْ فُضُولِ أَمْوَالِهِمْ، وَبِتَكْلِيفِهِمْ تَحَرِّي الْإِصْلَاحِ لِلْأَيْتَامِ مَعَ الْإِذْنِ بِمُخَالَطَتِهِمْ، وَمِنْ حِكْمَتِهِ أَنْ مَنَعَهُمْ مَا يَضُرُّهُمْ مِنْ ذَلِكَ، وَكَلَّفَهُمْ مَا فِيهِ مَصْلَحَتُهُمْ، وَأَنْ هَدَاهُمْ إِلَى وَجْهِ مَنْفَعَةِ النَّافِعِ وَمَضَرَّةِ الضَّارِّ.

الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: النُّكْتَةُ فِي وَصْلِ السُّؤَالِ عَنِ الْيَتَامَى بِالسُّؤَالِ عَنِ الْإِنْفَاقِ وَالسُّؤَالِ

<<  <  ج: ص:  >  >>