عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ ذَانِكَ السُّؤَالَانِ مَبْنِيَّيْنِ لِحَالِ فَرِيقَيْنِ مِنَ النَّاسِ فِي الْإِنْفَاقِ وَبَذْلِ الْمَالِ - عَلَى مَا تَقَدَّمَ - نَاسَبَ أَنْ يَذْكُرَ بَعْدَهُمَا السُّؤَالَ عَنْ صِنْفٍ هُوَ مِنْ أَحَقِّ أَصْنَافِ النَّاسِ بِالْإِنْفَاقِ عَلَيْهِ وَبَذْلِ الْمَالِ فِي سَبِيلِ تَرْبِيَتِهِ وَإِصْلَاحِ شَأْنِهِ وَهُوَ صِنْفُ الْيَتَامَى، وَلَيْسَ التَّرْغِيبُ بِالْإِنْفَاقِ عَلَيْهِمْ بِبَعِيدٍ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ، وَقَدْ تَكَرَّرَ فِي غَيْرِ هَذِهِ السُّورَةِ، كَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يُذَكِّرُنَا عِنْدَ الْإِذْنِ بِمُخَالَطَةِ الْيَتَامَى وَالتَّرْغِيبِ فِي الْإِصْلَاحِ لَهُمْ بِأَنَّ النَّفَقَةَ عَلَيْهِمْ مِنْ أَمْوَالِنَا
مَنْدُوبٌ إِلَيْهَا، وَأَنَّهُمْ مِنَ الْمُسْتَحِقِّينَ لِمَا نُنْفِقُهُ مِنَ الْعَفْوِ الزَّائِدِ عَنْ حَاجَاتِنَا; فَلَا يَلِيقُ بِنَا أَنْ نَعْكِسَ الْقَضِيَّةَ وَنَطْمَعَ فِي فُضُولِ أَمْوَالِهِمْ; لِأَنَّهُمْ ضُعَفَاءُ قَاصِرُونَ لَا يَسْتَطِيعُونَ دِفَاعًا عَنْ حُقُوقِهِمْ، وَلَا ذَوْدًا عَنْ مَصَالِحِهِمْ، فَجَمَعَ الْأَسْئِلَةَ الثَّلَاثَةَ فِي الْآيَتَيْنِ وَعَطَفَ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي غَايَةِ الْإِحْكَامِ وَالِالْتِئَامِ.
وَتَرَوْنَ مِنْ هَذَا السُّؤَالِ وَجَوَابِهِ كَيْفَ كَانَتْ عِنَايَةُ الْمُؤْمِنِينَ فِي حِفْظِ أَحْكَامِ اللهِ وَاتِّقَاءِ اعْتِدَاءِ حُدُودِهِ، وَكَيْفَ شَدَّدَ اللهُ تَعَالَى الْأَمْرَ فِي شَأْنِ الْيَتَامَى، فَلَمْ يَأْذَنْ بِالْقِيَامِ عَلَيْهِمْ إِلَّا بِقَصْدِ الْإِصْلَاحِ، وَلَا بِمُخَالَطَتِهِمْ إِلَّا مُخَالَطَةِ أُخُوَّةٍ، وَكَيْفَ وَجَّهَ الْقُلُوبَ مَعَ هَذَا إِلَى مُرَاقَبَتِهِ، وَالتَّذَكُّرِ لِإِحَاطَةِ عِلْمِهِ، ثُمَّ تَرَوْنَ كَيْفَ اتَّخَذَ النَّاسُ هَذِهِ الْآيَاتِ وَسِيلَةً لِلتَّلَذُّذِ بِنَغَمَاتِ قَارِئِيهَا، أَوْ لِلتَّعَبُّدِ بِأَلْفَاظِهَا دُونَ الِاهْتِدَاءِ بِمَعَانِيهَا، وَمَنْ أَخَذَتْهُ هِزَّةٌ عِنْدَ سَمَاعِ مِثْلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَاللهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ) فَإِنَّهَا لَا تَلْبَثُ أَنْ تَزُولَ، ثُمَّ هُوَ لَا يَزُولُ عَنْ إِفْسَادِهِ وَلَا يَرْجِعُ إِلَى رَشَادِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَتَزَيَّا بِزِيِّ الْمُتَّقِينَ، وَيَظْهَرُ فِي صُورَةِ الصَّالِحِينَ، وَيُكْثِرُ مِنَ التَّسْبِيحِ وَالتِّلَاوَةِ، وَحُضُورِ صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ، حَتَّى إِذَا مَا جُعِلَ وَصِيًّا عَلَى يَتِيمٍ لَا تَرَى لِذَلِكَ التَّحَنُّثِ أَثَرًا فِي عَمَلِهِ، وَلَا ذَلِكَ السَّمْتِ حَائِلًا دُونَ زَلَلِهِ، فَهُوَ إِنْ أَصْلَحَ شَيْئًا يُفْسِدُ أَشْيَاءَ، وَلَا يُرَاقِبُ اللهَ وَلَكِنْ يُرَاقِبُ الْحِسْبَةَ وَالْقَضَاءَ; ذَلِكَ أَنَّ الْإِسْلَامَ قَدْ صَارَ تَقَالِيدَ صُورِيَّةً، وَحَرَكَاتٍ بَدَنِيَّةً، لَيْسَ لَهُ مَنْبَعٌ فِي الْقُلُوبِ، وَلَا أَثَرٌ صَالِحٌ فِي الْأَعْمَالِ، وَإِنَّ اللهَ تَعَالَى لَا يَنْظُرُ إِلَى الصُّوَرِ وَالْأَبْدَانِ، وَلَا يَعْبَأُ بِالْحَرَكَاتِ وَالْأَقْوَالِ وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى الْقُلُوبِ وَالْأَرْوَاحِ، وَمَا يَنْشَأُ عَنْ صَلَاحِهَا مِنْ خَيْرٍ وَإِصْلَاحٍ.
(وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) .
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute