للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

الضَّارُّ مِنْهَا أَوِ الرَّاجِحُ ضَرَرُهُ فَتَعْلَمُوا أَنَّهُ جَدِيرٌ بِالتَّرْكِ فَتَتْرُكُوهُ عَلَى بَصِيرَةٍ وَاقْتِنَاعٍ بِأَنَّكُمْ فَعَلْتُمْ مَا فِيهِ الْمُصْلَحَةُ، كَمَا يَظْهَرُ لَكُمُ النَّافِعُ فَتَطْلُبُوهُ، فَمِنْ رَحْمَتِهِ لَمْ يُرِدْ أَنْ يُعْنِتَكُمْ وَيُكَلِّفَكُمْ مَا لَا تَعْقِلُونَ لَهُ فَائِدَةً إِرْغَامًا لِإِرَادَتِكُمْ وَعَقْلِكُمْ، بَلْ أَرَادَ بِكُمُ الْيُسْرَ فَعَلَّمَكُمْ حُكْمَ الْأَحْكَامِ وَأَسْرَارَهَا، وَهَدَاكُمْ إِلَى اسْتِعْمَالِ عُقُولِكُمْ فِيهَا، لِتَرْتَقُوا بِهِدَايَتِهِ عُقُولًا وَأَرْوَاحًا، لَا لِتَنْفَعُوهُ سُبْحَانَهُ أَوْ تَدْفَعُوا عَنْهُ الضُّرَّ; فَإِنَّهُ غَنِيٌّ عَنْكُمْ بِنَفْسِهِ، حَمِيدٌ بِذَاتِهِ، عَزِيزٌ بِقُدْرَتِهِ.

ثُمَّ بَيَّنَ جَلَّ شَأْنُهُ أَنَّ هَذَا الْبَيَانَ الْمُعَدَّ لِلتَّفَكُّرِ لَيْسَ خَاصًّا بِمَصَالِحِ الدُّنْيَا وَحْدَهَا، وَلَا بِطَلَبِ الْآخِرَةِ عَلَى انْفِرَادِهَا، وَإِنَّمَا هُوَ مُتَعَلِّقٌ بِهِمَا جَمِيعًا فَقَالَ: (فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ) أَيْ: تَتَفَكَّرُونَ فِي أُمُورِهِمَا مَعًا، فَتَجْتَمِعُ لَكُمْ مَصَالِحُ الْجَسَدِ وَالرُّوحِ فَتَكُونُونَ أُمَّةً وَسَطًا، وَأَنَاسِيَّ كَامِلِينَ، لَا كَالَّذِينِ حَسِبُوا أَنَّ الْآخِرَةَ لَا تُنَالُ إِلَّا بِتَرْكِ الدُّنْيَا وَإِهْمَالِ مَنَافِعِهَا وَمَصَالِحِهَا بِالْمَرَّةِ فَخَسِرُوهَا وَخَسِرُوا الْآخِرَةَ مَعَهَا; لِأَنَّ الدُّنْيَا مَزْرَعَةُ الْآخِرَةِ، وَلَا كَالَّذِينِ انْصَرَفُوا إِلَى اللَّذَّاتِ الْجَسَدِيَّةِ كَالْبَهَائِمِ فَفَسَدَتْ أَخْلَاقُهُمْ وَأَظْلَمَتْ أَرْوَاحُهُمْ، وَكَانُوا بَلَاءً عَلَى النَّاسِ وَعَلَى أَنْفُسِهِمْ فَخَسِرُوا الْآخِرَةَ وَالدُّنْيَا مَعَهَا. وَهَذَا الْإِرْشَادُ إِلَى التَّفَكُّرِ فِي مَصَالِحِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ جَمِيعًا هُوَ فِي مَعْنَى مَا جَاءَ فِي الدُّعَاءِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: (رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً) (٢: ٢٠١) وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُهَا، فَاللهُ تَعَالَى يُبَيِّنُ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْآيَاتِ أَنَّ الْإِسْلَامَ هَادٍ وَمُرْشِدٌ إِلَى تَوْسِيعِ دَائِرَةِ الْفِكْرِ وَاسْتِعْمَالِ الْعَقْلِ فِي مَصَالِحِ الدَّارَيْنِ، وَقَدَّمَ الدُّنْيَا فِي الذِّكْرِ لِأَنَّهَا مُقَدَّمَةٌ فِي الْوُجُودِ بِالْفِعْلِ، وَكُلُّ مَا أَمَرَنَا اللهُ تَعَالَى بِهِ وَهَدَانَا إِلَيْهِ فَهُوَ مِنْ دِينِنَا; وَلِذَلِكَ قَالَ عُلَمَاؤُنَا: إِنَّ جَمِيعَ الْفُنُونِ وَالصِّنَاعَاتِ الَّتِي يَحْتَاجُ إِلَيْهَا النَّاسُ فِي مَعَايِشِهِمْ مِنَ الْفُرُوضِ الدِّينِيَّةِ، إِذَا أَهْمَلَتِ الْأُمَّةُ شَيْئًا مِنْهَا فَلَمْ يَقُمْ بِهِ مِنْ أَفْرَادِهَا مَنْ يَكْفِيهَا أَمْرَ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ، كَانَتْ كُلُّهَا عَاصِيَةً لِلَّهِ تَعَالَى مُخَالِفَةً لِدِينِهِ، إِلَّا مَنْ كَانَ عَاجِزًا عَنْ دَفْعِ ضَرَرِ الْحَاجَةِ وَعَنِ الْأَمْرِ بِهِ لِلْقَادِرِ عَلَيْهِ، فَأُولَئِكَ هُمُ الْمَعْذُورُونَ بِالتَّقْصِيرِ.

عَلَى هَذَا قَامَ صَرْحُ مُجْدِ الْإِسْلَامِ عِدَّةَ قُرُونٍ، كَانَ الْمُسْلِمُونَ كُلَّمَا عَرَضَ لَهُمْ

شَيْءٌ بِسَبَبِ التَّوَسُّعِ فِي الْعُمْرَانِ يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ حِفْظُهُ وَتَعْمِيمُ دَعْوَتِهِ النَّافِعَةِ قَامُوا بِهِ حَقَّ الْقِيَامِ، وَعَدُّوا الْقِيَامَ بِهِ مِنَ الدِّينِ عَمَلًا بِمِثْلِ هَذِهِ الْآيَةِ وَغَيْرِهَا مِنَ الْآيَاتِ، وَمَضَوْا عَلَى ذَلِكَ قُرُونًا كَانُوا فِيهَا أَبْسَطَ الْأُمَمِ وَأَعْلَاهَا حَضَارَةً وَعُمْرَانَا، وَبِرًّا وَإِحْسَانًا، إِلَى أَنْ غَلَا أَقْوَامٌ فِي الدِّينِ وَاتَّبَعُوا سُنَنَ مَنْ قَبْلَهُمْ فِي إِهْمَالِ مَصَالِحِ الدُّنْيَا، زَعْمًا أَنَّ ذَلِكَ مِنَ الزُّهْدِ الْمَطْلُوبِ، أَوِ التَّوَكُّلِ الْمَحْبُوبِ، وَمَا هُوَ مِنْهُمَا فِي شَيْءٍ، وَكَانَ مِنْ أَثَرِ ذَلِكَ أَنْ أُهْمِلَتِ الشَّرِيعَةُ فَلَا تُوجَدُ حُكُومَةٌ إِسْلَامِيَّةٌ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ تُقِيمُهَا; لِأَنَّهُ لَا يُوجَدُ مِنْ أَهْلِهَا مَنْ يَصْلُحُ لِحُكْمِ النَّاسِ فِي هَذِهِ الْعُصُورِ الَّتِي اتَّسَعَتْ فِيهَا مَصَالِحُ الْأُمَمِ وَالْحُكُومَاتِ بِالتَّوَسُّعِ فِي الْعُلُومِ وَالصِّنَاعَاتِ وَارْتِبَاطِ الْعَالَمِ بَعْضِهِ بِبَعْضٍ، ثُمَّ صَارَ عُلَمَاءُ الْمُسْلِمِينَ أَنْفُسُهُمْ يَعُدُّونَ الِاشْتِغَالَ بِالْعُلُومِ وَالْفُنُونِ الَّتِي

<<  <  ج: ص:  >  >>