عَنْ ظَهْرِ غِنًى، وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ)) وَأَخْرَجَ ابْنُ خُزَيْمَةَ مِنْ حَدِيثِهِ أَيْضًا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: ((خَيْرُ الصَّدَقَةِ مَا أَبْقَتْ غِنًى، وَالْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنَ الْيَدِ السُّفْلَى، وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ، تَقُولُ الْمَرْأَةُ: أَنْفِقْ عَلَيَّ أَوْ طَلِّقْنِي، وَيَقُولُ مَمْلُوكُكَ: أَنْفِقْ عَلَيَّ أَوْ بِعْنِي، وَيَقُولُ وَلَدُكَ: إِلَى مَنْ تَكِلُنِي؟)) .
وَقَدْ نَوَّهَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي هَذَا الْمَقَامِ بِالْإِنْفَاقِ فِي حِفْظِ مَصَالِحِ الْأُمَّةِ وَأَعْمَالِهَا
الْخَيْرِيَّةِ، فَقَالَ مَا مِثَالُهُ: إِنَّ الْأُمَّةَ الْمُؤَلَّفَةَ مِنْ مِلْيُونٍ وَاحِدٍ إِذَا كَانَتْ تَبْذُلُ مِنْ فَضْلِ مَالِهَا فِي مَصَالِحِهَا الْعَامَّةِ، كَإِعْدَادِ الْقُوَّةِ وَتَرْبِيَةِ النَّابِتَةِ عَلَى مَا يُؤَهِّلُهَا لِاسْتِعْمَالِهَا وَيُقَرِّرُ الْفَضِيلَةَ فِي أَنْفُسِهَا تَكُونُ أَعَزَّ وَأَقْوَى مِنْ أُمَّةٍ مُؤَلَّفَةٍ مِنْ مِائَةِ مِلْيُونٍ لَا يَبْذُلُونَ شَيْئًا مِنْ فُضُولِ أَمْوَالِهِمْ فِي مِثْلِ ذَلِكَ; ذَلِكَ بِأَنَّ الْوَاحِدَ مِنَ الْأُمَّةِ الْأُولَى يُعَدُّ بِأُمَّةٍ; لِأَنَّ أُمَّتَهُ عَوْنٌ لَهُ، تُعِدُّهُ جُزْءًا مِنْهَا وَيُعِدُّهَا كُلًّا لَهُ; وَالْأُمَّةُ الثَّانِيَةُ كُلُّهَا لَا تُعَدُّ بِوَاحِدٍ; لِأَنَّ كُلَّ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَائِهَا (أَيْ أَفْرَادِهَا) يَخْذُلُ الْآخَرَ وَيَرَى أَنَّ حَيَاتَهُ بِمَوْتِهِ فَيَكُونُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا فِي حُكْمِ الْمَيِّتِ. وَفِي الْحَقِيقَةِ إِنَّ مِثْلَ هَذَا الْجَمْعِ لَا يُسَمَّى أُمَّةً; لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ أَفْرَادِهِ يَعِيشُ وَحْدَهُ وَإِنْ كَانَ فِي جَانِبِهِ أَهْلُ الْأَرْضِ، فَهُوَ لَا يَتَّصِلُ بِمَنْ مَعَهُ لِيَمُدَّهُمْ وَيَسْتَمِدَّ مِنْهُمْ، وَيَتَعَاوَنَ الْجَمِيعُ عَلَى حِفْظِ الْوَحْدَةِ الْجَامِعَةِ لَهُمُ الَّتِي تُحَقِّقُ مَعْنَى الْأُمَّةِ فِيهِمْ. وَإِنَّهُ لَمْ تَنْهَضْ أُمَّةٌ وَلَا مِلَّةٌ إِلَّا بِمَثَلِ هَذَا التَّعَاوُنِ، وَهُوَ مُسَاعَدَةُ الْغَنِيِّ لِلْفَقِيرِ، وَإِعَانَةُ الْقَوِيِّ لِلضَّعِيفِ، وَبَذْلُ الْمَالِ، وَالْعِنَايَةُ فِي حِفْظِ الْمَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ; بِهَذَا ظَهَرَ الْقَلِيلُ عَلَى الْكَثِيرِ وَكَانَتْ لَهُمُ السِّيَادَةُ، وَبِتَرْكِ هَذَا انْحَلَّتِ الْأُمَمُ الْكَبِيرَةُ، وَفَقَدَتِ الْمُلْكَ وَالسَّعَادَةَ.
قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: إِنَّ النُّكْتَةَ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ السُّؤَالِ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ، وَالسُّؤَالِ عَنِ الْإِنْفَاقِ فِي آيَةٍ وَاحِدَةٍ هِيَ الْمُقَارَنَةُ بَيْنَ حَالِ فَرِيقَيْنِ مِنَ النَّاسِ: فَرِيقٌ يُنْفِقُ الْمَالَ بِغَيْرِ حِسَابٍ فِي سَبِيلِ الْإِثْمِ، إِمَّا لِلتَّفَاخُرِ وَالتَّبَاهِي فِيمَا لَا فَخْرَ فِيهِ وَلَا شَرَفَ فِي الْحَقِيقَةِ، وَإِمَّا لِمُجَرَّدِ اللَّذَّةِ وَإِنْ سَاءَتْ عَوَاقِبُهَا، وَفَرِيقٌ يُنْفِقُهُ فِي سَبِيلِ اللهِ يُزِيلُ بِهِ ضَرُورَةَ إِخْوَانِهِ الْمَسَاكِينِ وَالضُّعَفَاءِ، وَيَرْفَعُ بِهِ مِنْ شَأْنِ أُمَّتِهِ بِمَا يَجْعَلُهُ لِلْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ وَأَعْمَالِ الْخَيْرِ، وَأَعْظَمُ الْمَصَالِحِ وَالْأَعْمَالِ فِي هَذَا الْعَصْرِ هُوَ التَّعْلِيمُ وَالتَّرْبِيَةُ. وَلَوْ بَذَلَ الْمِصْرِيُّونَ عُشْرَ مَا يُنْفِقُونَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ - وَلَا سِيَّمَا مَا يُسَمُّونَهُ الْمُضَارَبَةَ - عَلَى التَّعْلِيمِ، لَتَيَسَّرَ لَهُمْ تَعْمِيمُ الْمَدَارِسِ فِي بِلَادِهِمْ، وَتَوْجِيهُ التَّعْلِيمِ فِيهَا إِلَى مَا يُجَدِّدُ مِلَّتَهُمْ وَيُعِيدُ إِلَيْهِمْ مَا فَقَدُوا مِنْ كَرَامَتِهِمْ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: (كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآيَاتِ) مَعْنَاهُ: مِثْلُ هَذَا النَّحْوِ وَعَلَى هَذِهِ الطَّرِيقَةِ مِنَ الْبَيَانِ قَدْ قَضَتْ حِكْمَةُ اللهِ بِأَنْ يُبَيِّنَ لَكُمْ آيَاتِهِ فِي الْأَحْكَامِ
الْمُتَعَلِّقَةِ بِمَصَالِحِكُمْ وَمَنَافِعِكُمْ، وَذَلِكَ بِأَنْ يُوَجِّهَ عُقُولَكُمْ إِلَى مَا فِي الْأَشْيَاءِ مِنَ الْمَضَارِّ وَالْمَنَافِعِ (لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ) فَيَظْهَرُ لَكُمْ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute