أَنَّ السُّؤَالَ الْأَوَّلَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ نَزَلَ وَحْدَهُ ثُمَّ نَزَلَ هَذَا السُّؤَالُ بَعْدَهُ، بَلِ الْمُرَادُ أَنَّ هَذِهِ الْأَسْئِلَةَ كَانَتْ مِمَّا يَقَعُ مِنَ الصَّحَابَةِ فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الْآيَاتِ بَيَانًا لِهَذِهِ الْأَحْكَامِ، وَإِجَابَةً لِلسَّائِلِينَ عِنْدَمَا اسْتَعَدُّوا لِلْأَخْذِ بِهَا، وَمَا وَرَدَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ أَيَّ جُزْءٍ مِنْ أَمْوَالِهِمْ يُنْفِقُونَ، وَأَيَّ جُزْءٍ مِنْهَا يُمْسِكُونَ، لِيَكُونُوا مُمْتَثِلِينَ لِقَوْلِهِ: (وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) (٢: ١٩٥) وَمُتَحَقِّقِينَ بِقَوْلِهِ: (وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ) وَمَا فِي مَعْنَى ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ الَّتِي تَنْطِقُ بِأَنَّ الْإِنْفَاقَ فِي سَبِيلِ اللهِ مِنْ آيَاتِ الْإِيمَانِ وَشُعَبِهِ اللَّازِمَةِ لَهُ عَلَى الْإِطْلَاقِ، الَّذِي يُشْعِرُ أَنَّ عَلَى الْمُؤْمِنِ أَنْ يُنْفِقَ كُلَّ مَا يَمْلِكُ فِي سَبِيلِ اللهِ. وَقَدْ قَضَتِ الْحِكْمَةُ بِهَذَا الْإِطْلَاقِ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ وَبِمَدْحِ الْإِيثَارِ عَلَى النَّفْسِ; لِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا فِئَةً قَلِيلَةً فِي أُمَمٍ وَشُعُوبٍ وَقَبَائِلَ تُنَاصِبُهُمُ الْعَدَاوَةَ وَتَبْذُلُ فِي ذَلِكَ الْأَمْوَالَ وَالْأَرْوَاحَ، فَإِذَا لَمْ يَتَّحِدُوا حَتَّى يَكُونُوا كَشَخْصٍ وَاحِدٍ، وَيَبْذُلُ كُلُّ وَاحِدٍ مَا بِيَدِهِ لِمَصْلَحَتِهِمُ الْعَامَّةِ، لَا تَسْتَقِيمُ لَهُمْ حَالٌ وَلَا تَقُومُ لَهُمْ قَائِمَةٌ، وَهَذِهِ هِيَ السُّنَّةُ الْعَامَّةُ فِي كُلِّ دِينٍ عِنْدَ ابْتِدَاءِ ظُهُورِهِ
وَأَوَّلِ نَشْأَتِهِ، ثُمَّ بَعْدَ أَنْ تَعْتَزَّ الْمِلَّةُ وَتَكْثُرَ الْأُمَّةُ، وَيَصِيرَ يَكْفِي لِحِفْظِ مَصْلَحَتِهَا مَا يَبْذُلُهُ كُلُّ ذِي غِنًى مِنْ بَعْضِ مَالِهِ، وَيَفْرُغَ الْجُمْهُورُ لِلْأَعْمَالِ الْخَاصَّةِ بِحَيْثُ يَتَمَكَّنُ ذُو الْعَمَلِ أَنْ يُفِيضَ مِنْ كَسْبِهِ عَلَى أَهْلِهِ وَوَلَدِهِ، بَعْدَ أَنْ كَانَ مُسْتَغْرِقًا فِي السَّعْيِ لِتَعْزِيزِ دِينِهِ وَوِقَايَتِهِ مِنَ الْمَحْوِ وَالزَّوَالِ، بَعْدَ هَذَا كُلِّهِ تَخْتَلِفُ الْحَالُ فَلَا يَسْهُلُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ أَنْ يُؤْثِرَ كُلَّ مُحْتَاجٍ عَلَى نَفْسِهِ وَأَهْلِهِ وَوَلَدِهِ; وَلِذَلِكَ تَوَجَّهَتِ النُّفُوسُ بَعْدَ اسْتِقْرَارِ الْإِسْلَامِ إِلَى تَقْيِيدِ تِلْكَ الْإِطْلَاقَاتِ فِي الْإِنْفَاقِ، فَسَأَلُوا مَاذَا يُنْفِقُونَ؟ فَأُجِيبُوا بِأَنْ يُنْفِقُوا الْعَفْوَ، وَهُوَ الْفَضْلُ وَالزِّيَادَةُ عَنِ الْحَاجَةِ، وَعَلَيْهِ الْأَكْثَرُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ الْعَفْوَ نَقِيضُ الْجَهْدِ; أَيْ: يُنْفِقُونَ مَا سَهُلَ عَلَيْهِمْ وَتَيَسَّرَ لَهُمْ مِمَّا يَكُونُ فَاضِلًا عَنْ حَاجَتِهِمْ وَحَاجَةِ مَنْ يَعُولُونَ.
قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو (الْعَفْوُ) بِالرَّفْعِ وَالْبَاقُونَ بِالنَّصْبِ، وَالْإِعْرَابُ ظَاهِرٌ، وَالزِّيَادَةُ أَمْرٌ مُجْمَلٌ يَحْتَاجُ إِلَى بَيَانٍ، فَهَلِ الْمُرَادُ حَاجَةُ الْيَوْمِ أَوِ الشَّهْرِ أَوِ السَّنَةِ؟ رَجَّحَ بَعْضُهُمُ الْأَخِيرَ; لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ادَّخَرَ لِأَهْلِهِ قُوتَ سَنَةٍ. وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: إِنَّ الْقُرْآنَ أَطْلَقَ الْعَفْوَ لِيُقَدِّرَهُ كُلُّ قَوْمٍ فِي كُلِّ عَصْرٍ بِحَسَبِ مَا يَلِيقُ بِحَالِهِمْ; لِأَنَّهُ خِطَابٌ عَامٌّ لَيْسَ خَاصًّا بِأَهْلِ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ، وَلَا بِحَالِ النَّاسِ فِي زَمَنِ الْبَعْثَةِ. وَالْمُرَادُ بِهَذَا الْإِنْفَاقِ مَا وَرَاءَ الزَّكَاةِ الْمَفْرُوضَةِ الْمَحْدُودَةِ كَصَدَقَةِ التَّطَوُّعِ عَلَى الْأَفْرَادِ وَعَلَى الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ، وَإِنْ كَانَ لَفْظُ الْعَفْوِ يُصَدَّقُ عَلَى الزَّكَاةِ; لِأَنَّهَا لَا تَكُونُ إِلَّا مِنَ الزَّائِدِ عَلَى الْحَاجَةِ الَّذِي لَا جَهْدَ وَلَا مَشَقَّةَ فِيهِ.
وَقَدْ وَرَدَ فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ مَا يُؤَيِّدُ هَذَا، فَقَدْ أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: ((خَيْرُ الصَّدَقَةِ مَا كَانَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute